القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

أنكيدو يراود خبيرة ألمانية بين الحارس والمحيط

عدنان سمير دهيرب/ نقلا عن جريدة الزوراء



إفول حضارة في مكان وزمان، ونشوء أخرى لا يلغي الأولى التي كشفت معالمها الباذخة ولو بعد حين يمتد لقرون من الزمن، شهدت الإهمال والاندثار من الانسان أو العوامل الطبيعية التي غطت تلك الآثار.

وتشير الى عبقرية ذلك الإنسان وقدراته في صناعة تلك الحضارات التي ما زالت تشكل مؤشرات على الذكاء، والبحث في الوجود وصياغة التوازن لتنظيم المجتمع والحياة والسيطرة على التحديات الداخلية والخارجية، مع تلك الظروف وصراعها مع الطبيعة، والامبراطوريات الأخرى المنافسة من حيث القوة والتأثيرة للسيطرة والهيمنة على المجتمعات الأخرى، والإفادة من ثقافتها وأمكانياتها المادية والبشرية.

إن البحث في ميدان الآثار وما تحمل من رموز ومعالم وفنون يأتي من الشغف في الاستطلاع ، والكشف من هوية تلك المجتمعات وثقافتها التي ما زال قسم منها حاضراً بشكل مباشر أو غير مباشر بالرغم من الإهمال الكبير الذي أصابها، وتخلف البيئات المحيطة بها، بسبب إختلاف الحضارات ومواقعها وفق التسلسل الزمني باختيار أماكن أخرى، فرض اهتماماً وعناية تنسجم مع ضرورات الحضارة التالية . 

فقد أهملت الحضارات والامبراطوريات التي سادت في العراق بالمحيط لاثار أوروك، إمتد لفترة أربعة الاف عام ، والدليل على ذلك عدم وجود أي معلم فارسي أو إسلامي أموي أو عباسي تتري أو مغولي ملكي أو جمهوري، سوى مراكز وسجون الاحتلال البريطاني الموزعة كل 15كم ، ص11 .. مع غياب الدولة خلال العقود الأولى من القرن العشرين وسطوة المحيط المحلي المتخلف جعل الآثار مواقع للعبث من التجمعات السكانية القريبة . 

ذلك ما زبره بأسلوب رشيق الباحث كاظم الحناوي من خلال الوثائق، المصادر، القوانين، القرارات ، المقابلات الشخصية ، الصور والمتابعة الميدانية وفق المنهج التاريخي في كتابة أوروك الحارس والمحيط ، الذي يمنح القارئ المعلومات الغزيرة والتأمل في قدرة تلك المجتمعات الغائرة في التاريخ البعيد على تشييد حضارات ما برحت تشكل أحد أهتمامات الدول والمختصين والمنظمات الدولية والوطنية . إذ أصبحت ستة مواقع مصنفة كتراث عالمي، بالإضافة الى الأهوار وفق إتفاقية أرادت منها اليونسكو الى حماية المواقع الأثرية والطبيعية المميزة ذات القيمة الاستثنائية للجنس البشري (لأنها ملك لجميع سكان العالم). ذلك الاهتمام يأتي بعد التنقيب عن آثار الحضارات السومرية والبابلية والآشورية في القرن التاسع عشر من منقبين آثاريين أنكليز وألمان وفرنسيين. وقد إهتم الالمان خلال أكثر من قرن من الزمن بحضارة الوركاء . وتم تنصيب أكثر من عشرة آلاف موقع ومعلم ، يسمى باللغة الدارجة ( ايشان ) كجزء من التراث الاثري في العراق . 

غير إن تلك الآثار تعرضت الى سرقات كثيرة منذ بدء التنقيب. فقد إستحوذت أمريكا في بداية القرن العشرين من خلال القنصل إدغار جميس بانكلس على أكثر من ( 11 ) ألف رقم طيني من الالواح المسمارية. فيما نشرت صحيفة انترناشيونال هيرالد تربيون الصادرة في 15 فبراير 2005 تصريحاً لعالم الآثار جون روس الممتلكات التي سرقت من العراق خلال الفترة الممتدة من آذار 2003 الى أوائل عام 2005 ما بين 400 ألف الى 600 ألف قطعة أثرية (ص49) . وكانت تلك السرقات وغيرها تحصل من خلال السفارات ، فيما ظهرت خلال الأعوام القريبة سرقات أخرى من خلال الأسواق الالكترونية ، ومتابعة لصوص الآثار ، لما ينشر على الشبكة العنكبوتية . وترى تلك الآثار موزعة في متاحف أوروبية وأمريكية . 

إن الكتابة عن أوروك تدعو الباحث الى الإبحار في معاني ملحمة كلكامش التي كتبها شين إيقي أوتيني على ألواح الطين لتسرد قصة رجل ثلثاه إله وثلثه إنسان ، إبن الاله تنسون التي حملت من ملك الوركاء لوجال بندا . 

فقد إعتقد كلكامش ( أن القلق هو الوسيلة التي يعترف بها الانسان من خلالها على حقيقة. 

والأكثر من ذلك على عبثية الوجود برمته فهي بيان إنساني طويل، نداء من أجل إستقلالية الانسان وحريته. إنتهى كلكامش الى حقيقته : إن بلاد ما بين النهرين لا تحتاج الى إله بقدر حاجتها الى قائد صادق وتعاون إنساني ) . تلك الحقيقة التي وصل اليها كلكامش قبل خمسة الاف عام. أعتقد ما زال الشعب العراقي بحاجة اليها للخلاص من الامراض الاجتماعية والأزمات التي يعاني منها بسبب كذب القادة وتقسيم المجتمع . 

وقد وظف الحناوي خبرته واختصاصه في حقل الصحافة ميدانياً لتعزيز المعلومات التي سطرها بأسلوب السهل الممتنع ، واللقاءات التي امتدت لأيام مع حارس آثار الوركاء مهر رميم الذي أمضى عقوداً مع البعثات الألمانية التي وصلت الى الآثار عام 1912 وبدأ العمل مع احدى البعثات عام 1954 ، وخلال تلك العقود من العمل بصفة عامل ثم حارس ، سرد العديد من الوقائع والحكايات حول طبيعة عمل المنقبين وما رافقها من مصاعب ودقة في الحفر، والمتغيرات التي حصلت في المواقع وتسييجه والبحث عن صدام حسين من قبل القوات الفرنسية والإيطالية وكيف عثر على تمثال خمبابا العفريت المارد حارس غابات الأرز وقصة الحب بين انكيدو (احمد) والخبيرة الألمانية ، إذ (كانت تجلس على مرتفع قريب من مكان التنقيب ، عندما أشتد وطيس العاصفة الترابية، وضاعت معالم المكان .. صوت بداخلها ينادي أين أنكيدو ؟ سارت مسرعة وسط العاصفة الترابية، وإذا بقلبها تشتد ضرباته ، فقد رأت خيالاً من تراب واثق الخطوة يسير بالقرب منها ، أخذت صورته تتوضح رويداً رويداً .. 

كان يحمل زبيل به آخر اللقى الأثرية التي جمعها على ظهره ، ويجعل كتفه باتجاه الريح كي ينزوي الزبيل خلف إنعطافة جسمه .. لكيلا تقله الريح .... تلقته الخبيرة الألمانية بصوت فيه لوعة محب منادية انكيدو .. كلمة قالتها بصوت خافت وعيونها فرحة ... قال (يسس مدام ، قالت أحمل الزنبيل وتعال خلفي الى مقر البعثة) اللغة أكثر بالإشارة التي اتقنها العاملون في المواقع آنذاك. 

ويستطرد أخذت الزنبيل، وربطاً مع أحداث وقعت في أوروك قبل الاف السنين حيث كانت عشتار مغرمة بفلاح يدعى ، انكي – أمدو ، فواجهها عاشقها الإله تموز بنفسه ، ووعدها بكل ما تتمناه ، وبعد جهد جهيد وافقت عشتار ، وغضت النظر عن ذلك الفلاح – وثمة تفاصيل كثيرة حول تلك الواقعة – لا تسمح هذهِ السطور بسردها . 

إن المتغيرات السياسية والاقتصادية والحصار والاحتلال والتحول في التفكير الاجتماعي مع تغير النظام السياسي . إنعكس على الاهتمام بالآثار وسلوك العاملين فيها وسبل حمايتها. وقد تجلى ذلك بتفشي الرشوة والسرقة واستغلال المواقع الإدارية . وإستغلال الحقائب الدبلوماسية لاعضاء السلك الدبلوماسي في عمليات السرقة ، إضافة الى تصورات مغايرة لمسؤولين ورجال دين في النظام السياسي الجديد . 

إذ يذكر الحارس الذي يعيش حياة تشبه سكان أوروك القدماء بدءاً من بناء بيته من ذات الحجر الذي أستخدم سابقاً في العصور القديمة، وعزلته عن المحيط الاجتماعي الذي أثر على نفسية أولاده، وسلوكهم الانطوائي أو المتسم بالعنف ، فضلا عن مستلزمات الحياة الأخرى، فهو يسرد حكايات وصور شهدها أثرت على العمل والآثار، مثل بناء مقام الخضر وعدد من الدور في ستينيات القرن الماضي من طابوق نقل من الآثار (فلكل حضارة نوعية حجر يختلف عن الحضارات الأخرى ). والنزاعات العشائرية حول السيطرة على الآثار ، لا سيما بين آل توبة والجوابر ، وتدخل ( الفريضة ) في حل تلك النزاعات .   

ثمة حقائق يشير اليها المنجز الذي استغرق إكماله خمسة أعوام ليصدر عن دار لندن. أهمها التطور القانوني والفكري والعلمي في مجال الرياضيات التي سبقت نظرية فيثاغورس، وتنظيم حياة المجتمع بالقوانين والشرائح ، وظهور المدن وشبكات الري والصناعة وصياغة الذهب والاهتمام بالتجارة والزراعة والدين والاساطير والقيم لتشكيل ثقافة وهوية، ذلك المجتمع وتلك الحضارة القديمة والتطور الذي حصل ، يؤكد تقدم تلك الامبراطوريات في العراق القديم، بلد إستمد اسمه من أوروك وعلم الإنسانية الكتابة والشرائع والادب وجذور الأديان . وأثرها على الأديان اللاحقة .

  إن هذا الكتاب يأتي إستكمالاً لكتاب الباحث آخر أسواق أوروك ، ويعد إضافة نوعية الى المكتبة العربية في مجال الآثار والدراسات التاريخية والاجتماعية ، ويشكل صفحة أخرى من مدونات لم تكتب بعد ، حول عبقرية ذلك الانسان الذي ما برحت تختبئ كنوزه تحت التربة التي غطت إنجازات مازال الكشف عنها بحاجة الى أعوام من الجهد والصبر والتنقيب عنها.    

 

 

أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع