القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

عدنان سمير دهيرب/ نقلا عن جريدة الزوراء




الكتابة عن المدن، سكانها ، تاريخها وما تحمل من أحداث ووقائع يسطرها الباحث بأسلوب ومنهج وغايات ، لئلا يغتالها النسيان وتضيع آثارها من الذاكرة ، التي تضج بتلك الحوادث الاجتماعية والشخصية ، لتشكل صفحات من أيام وأعوام تؤثر على سلوك وأخلاق الانسان الذي يتأثر بها. فيما يتناولها الأديب بأسلوب وكلمات ومشاعر تتباين وربما لا تلتقي مع ما يزبره الباحث في تاريخ المدن وواقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي .

فهو يلتقط تلك الميادين من خلال شخوص الرواية وتصويرهم بحبكة ولغة ومفردات أنيقة وجمل رشيقة، تجذب القارئ الى الانسجام والتفاعل مع شخصيات الرواية وأحداثها، لا سيما إذا ما كان القارئ من ذات البيئة أو المدينة التي يتناولها الروائي ، إذ يتخيل أنه ذات الشخصية الرئيسة في الرواية أو أنه يسير معه في الأسواق والمقاهي ، وما يشعر أو يعاني من آثار تلك البيئة . ذلك ما حمله سرد الروائي الكبير زيد الشهيد ( قاتل أبيه ) ، فقد كانت صفحات الرواية الـ 149 ، إضافة نوعية الى رواياته الزاخرة بالمعنى والمتعة والأدب الباذخ بالجمال والأثر العميق. 

إن قاتل أبيه، وثيقة تاريخية بصيغة أدبية مبهرة عن مدينة السماوة ، ومن خلالها الإشارة الى قضايا وحوادث أصابت كل العراق خلال العقود الأربعة الأخيرة ، وما جرى من حروب وحصار وإرهاب وتحولات اجتماعية وإقتصادية ، بفعل التغيير السياسي الذي وقع إثر الحرب والاحتلال . 

والشهيد لا يجرد الاحداث التي يسردها وإنما يفككها سسيولوجياً ويحلل الشخصيات الرئيسة سيكولوجياً ، ويصف المدينة حتى تغدو جزءاً منها تسير في دروبها وتجلس في المقاهي لتستمع الى أحاديث روادها ، فيما يؤشر الى التحول في إتجاهات أصحاب تلك المقاهي وإنعكاس النظام السياسي على سلوكهم ففيها (شاشات البلازما تنقل برامج محطات فضائية دينية تمشياً مع مسار الدولة جاعلة الدين قريناً للسياسة). فيما يصف الكثير من الناس بعدم الاهتمام بالرموز الأدبية والفنية ، فقد كانت الشخصية الرئيسة في الرواية نوفل عرفان شغوفاً بالأدب يتمنى أن يكون ككاظم السماوي (اسماً أدبياً له صيته عالمياً وإن بدت مدينتنا السماوة ، كالكلبة التي تأكل جراءها ، غير أبهةٍ به). وتلك احدى صفات المدن الصغيرة التي لا تهتم بمبدعيها ورموزها وتهتم بهم فقط عند موتهم او عند اهتمام الاخرين بهم في وسائل الاعلام والمحافل الأدبية التي تحتفي بنتاجاتهم الإبداعية . 

كان نوفل عرفان رمزا لأجيال سحقت من فرط المعاناة والعذابات والقمع الذي أصاب المجتمع إبان النظام الدكتاتوري فهو (يسكن مع أخت أرملة .. عنده أولاد عم ثلاثة ، أحدهم إنضم في بداية تسعينيات القرن الماضي الى ألوية السلام وقتل في شمال العراق إثر غارة قتالية شنتها عليهم قوات صدام، والثاني هاجر الى أوربا فترة الحصار الدولي على العراق ولم يعد ، أما الأصغر فانتمى الى أحد الأحزاب الدينية وقتل في مهمة ضد الامريكان الذين أحتلوا البلد في 2003 ) . 

تتدفق الحكايات التي يرويها مالك صديق نوفل لتلاحقها النواظر من خلال سبعة عناوين أو صفات إختزل فيها الصديق زيد الشهيد محطات غارقة بالحزن لحياة نوفل ومعاناته مع والده الثري ولاعب القمار ومرحلة الدراسة الابتدائية والمتوسطة وخوضة غمار الحروب وإصابته ، بعد خروج العراق من الكويت ، ( يوم أرادت طائرات التحالف لصدام أن يكون أكبر مهزوم في التاريخ)، فقد أوضح مالك صديق نوفل سبب عوقه (ما في نوفل من عوق هو ما في الالاف ممن تشاهدهم في الشوارع والطرقات والمتلقيات .. إنها ضرائب الحرب يا صديقي .. مَن لم تلتهمه نار الحرب ويبقى حياً ، لابد أن يدفع ضريبة بقائه يتنفس .. محظوظون جداً من خرجوا أصحاء بلا عاهات من الحروب المتوالية التي مرت على العراق) . لتتحول إعاقته وشغفه بالقراءة وإقتناء الكتب التي يصفها بالكنوز ، الى شعلة بوجه الظلم والعسف وعدم الخضوع والخنوع لشهوات الحكام ونزواتهم المريضة. ولأن الشهيد يتناول تجربة إنسانية ولمحة إجتماعية ، كان لابد أن يتناول مشاعر نوفل الذي غرق في حُب إنسانة إسمها فاضلة ، وصفها مثل نخلة تعج بالرطب، شعرها مسترسل على الكفتين اذا مشت ضربت الأرض واثقة. حذاؤها بالكعب العالي يصدر إيقاعاً يلفت الانتباه .. كان ذلك حين كانت شابة ، يوم وقع في حبها . غير إنها الآن تحيط وجهها بوشاح أظهره مستديراً . تخطو لابسة حذاءً جلدياً مسطحاً ، ويعلل ذلك أنه ( زمن المتدينين ) . وتذكر رحلتها القديمة وحبها لنوفل كجزء من ذاكرة لا ترحل، وترى أن تغيره وهجرها يعود الى ( قراءات مكثفة ، وفحوى كتب يقتنيها ، مضافاً لها غثيانه من واقع أبيه وتهالك مجتمع يضمه ، ومآسي قرأها في حياة عمه وخاله ، وإرتباك حياة يومية تفصيلية يعيشها في البيت والعمل ونقده المتكرر ). كل ذلك وغيره من صدمات الواقع وقراءاته الفلسفية، جعلته ينزوي بعيداً ، على شاطئ الفرات في المساء (يشرع الناي بالنزف فيسري نهر اللوعة متدافعاً من سهوب الروح ) لتلتقي مع موجات النهر ، الحزن الذي أخذ يرافقه بعد فقده للأحبة والصحابا. وإتهامه بقتل أبيه بعد شجارات متكررة بسبب تصرفاته ، وإهمال عائلته ، تعيش الفقر والفاقه رغم إمتلاكه المال من إنتاج الملح الذي يدر عليه المال الوفير حين لفظ أنفاسه ، يوم (إرتطم رأسه بحافة الباب لحظة همّ نوفل بالخروج لتفادي غضبه الذي تفاقم فحوله الى كتلة هائجة هرب منها الشعور الإنساني وبقي فيها جموح الانتقام). وإستمرار مكابداته من ذكرى حب رحل مع فاضلة يوم كتبت له ( لا تترك صورتي يعلوها غبار الإهمال يانوفل ، وليس لك أن تنساني . إن النسيان موت الحقيقة .. التي كلانا يبحث عنها ) . 

لقد سكب زيد الشهيد في هذهِ الرواية معلومات وافرة كشفت فيها عن ثقافته وقدرته الفائقة على صياغة أدبية تشير الى موهبة متدفقة ، تضاف الى إبداعاته التي قدمها خلال الأعوام السابقة وهو يؤرخ لمدينته السماوة ، حين صدرت روايات ( أفراس الأعوام ) وتراجيديا مدينة و ( شارع باتا ). غير أن قاتل أبيه فيها إشارات ورموز عديدة تشير الى التحولات التي حصلت في البلد ، إذ يؤكد من خلال أصدقاء نوفل في محافظات أخرى ، الى ما جرى لهؤلاء لتحقيق طموحاتهم وتغيير اتجاهاتهم الايديولوجية ، ولكن ليس في العراق وإنما في بلدان أخرى ، رحلوا إليها ، فهذا طبيب وآخر فنان ، مجاهد ، متدين ، صحفي وسوى ذلك بفعل الأوضاع والمتغيرات السياسية التي دفعت الكثير من الشباب الى الهجرة للبحث عن ذاتهم . ويؤكد أيضاً أن الانسان المثقف في مدينته يعاني من إدراكه لسوء الوضع الاجتماعي والسياسي، وكيفية التعامل مع مجتمع تتسلل اليه الأمراض الاجتماعية ، فهو مثل المتنبي يردد : أنا في أمة تداركها الله / كصالح في ثمود . 

فيما الايحاءات الواعية تترى ، حين تلاحق سطور وصفحات الرواية ، لتجد فيها زيد الشهيد المثقف ، وربما أنا أو أنت تتجسد في كلمات سامقة حول مكان وإنسان ما برح يعاني ويتشوف الى مستقبل تتحقق فيه تطلعات إنسان كافح طويلاً من أجل غد زاهر . 


أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع