القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

حسين البصري..الفنان الحزين الذي ينشدُ الفرح

كتب /سامر المشعل


عند الحديث عن الأغنية العراقية الحديثة لايمكن المرور دون ذكر أسم الفنان حسين البصري وتجربته المميزة ولونه الخاص الذي ابتكره وحافظ عليه طيلة اكثر من اربعة عقود.

أولى المفارقات ان الفنان المذكور حمل اسم المدينة التي يحبها كل العراقيين ويكنى بها برغم انه ولد وأبصر النور في بغداد (محلة الشاكرية) بعدما نزحت عائلته من ثغر العراق الذي كان (باسماً) محافظة البصرة ، ليبصر حسين النور ويتمسك بجذوره ولايتنازل عن حمل اسم (البصري) مطلقاً، ومن ثم انتقلت عائلته الى مدينة الثورة “ الصدر” حالياً.. ليعيش حياة ملؤها الحرمان والبؤس في بيئة شعبية فقيرة.. أحب خلال سنيّ حياته الأولى الموسيقى والغناء،وأشترى آلة عود بسيطة بمبلغ (25) ديناراً، جمعها من كده وإشتغاله “ بالعمالة “. وشرع يدرب نفسه بالعزف على هذه الآلة ليتقنها بالتدريج.

كانت أول أغنية للفنان حسين البصري هي “ حد الشوف “ في العام 1972 وبعد عام اصدر أغنية “ شفتك بعيني أنا”، وفي العام 1976 اصدر شريطه الأول “ الصورة “ ومن ضمنه أغنية “ قمر قمر “، التي استوحاها من أغنية الفنان الكويتي عبد المحسن المهنا “ الله أمر عاشق وأحبك ياكمر “. وكان متأثراً آنذاك بالفنان عبد الكريم عبد القادر... ومن هنا انطلق في رحلته التي لم تكن يسيرة ابدا بسبب ان الساحة الفنية الغنائية في العراق كانت مزدحمة جدا بالنجوم والقامات التي يصعب مزاحمتها أو منافستها أمثال ياس خضر،حسين نعمة،سعدون جابر،حميد منصور،رياض احمد،رضا الخياط،فاضل عواد،فؤاد سالم،قحطان العطار وآخرين.

لكن البصري الفنان الشامل، الذي يكتب ويلحن ويغني، أوجد له أسلوبه الخاص في الغناء والتلحين وقدم إنموذجاً راقياً للأغنية الشعبية، كونه يستمد موضوعاته من يوميات الناس البسطاء الذين يلتقيهم كل يوم ويستلهم معاناتهم،آلامهم،أحلامهم وتطلعاتهم.. فجاءت أغنية “ كوه كوه “ من خضم معاناة فراق حبيب عن حبيبته، بسبب سياسة التهجير التي مارسها النظام الدكتاتوري ضد التبعية الإيرانية...وتمر السنين ويتعرض هو نفسه لموقف مشابه حينما أضطرته الظروف ليغادر العراق ويطلب التحاق زوجته الثانية به،لكن اهلها رفضوا ذلك وطلقوها منه بالإكراه.

وكل اغاني البصري حملت قصة او حكاية خاصة، فأغنية “ انا فنان“ جاءت من حوار الفنان حسين البصري مع امرأة عراقية كانت تبيع في "بسطة" في الساحة الهاشمية بعمان في تسعينيات القرن الماضي، عندما وصل الجوع الى العظم اثر العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق، وكان احد أبنائها قد قتل بالحرب. فصاغ البصري كلام الاغنية ولحنها وغناها وصادف ان غنى هذه الأغنية امام الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي بكى الاخير وتأثر بها، وقال “ علمنا حسين البصري ان ننزل الى الساحات لنلتقط مآسي الناس ونكتب الشعر الوجداني “.

أما أغنية “ نايم المدلول “ التي تركت اثراً عميقاً بذاكرته وكانت تحمل رسائل إدانة ورفض للحروب ولسياسات النظام السابق العبثية، فيمكن عدها احدى اهم المراثي والبكائيات الحزينة التي صبغت حياة العراقيين لردح طويل من الزمن،حيث شاهد البصري احد الجنود وهو بريعان الشباب قد سقط قتيلاً، نتيجة إصابته بشظية ولا تبدو عليه آثار الموت، ولم يصدق ان هذا الشاب الوسيم الأنيق الحليق الذقن ذو الملامح الجميلة الوادعة، قد فارق الحياة، فجاءت أغنية (نايم المدلول حلوه نومته..مسلهم عيونه وناسل كذلته)..ويقال ان الشاب كان صديقا للفنان البصري لأنه ذكره بكتابة القصيدة بالقول :وليدي وأحيانا صديقي..الخ.

تمتاز أغنيات حسين البصري بانها لاتشبه غيرها، حيث الإيقاعات البصرية والخليجية باللون الشعبي الخفيف الراقص مدمجاً فيه بعض الفلكلوريات مثل الهيوة والخشابة والسامري وغيرها.. وهو ملحن موهوب يمتاز بالجمل الموسيقية الرشيقة الممزوجة بصوت مضمخ بالحزن المعتق، وكأنه يريد بهذه الخلطة ان يفتح نوافذ للروح تخرج منها الآهات والهموم، كما هي فلسفة الرقص على ايقاع قرع الطبول عند الأفارقة لاستخراج الأرواح الشريرة من جسد الإنسان المتعب المعذب.

قدم البصري تراجيديا الفرح، فهو ينطلق في كتابة وتلحين أغانيه من الموقف الإنساني الذي يمر به، كما يسمى في الاصطلاح المسرحي “كوميديا الموقف “ فهو من أكثر الفنانين الذين بثوا الفرح في الأغنية العراقية التي عرف عنها انها إجمالاً ذات طابع حزين وفجائعي، وعندما قدم الثنائي مي اكرم ووحيد أغنيته “ استعجل يا ميل الساعة “، كانت اشبه برذاذ تشريني ينث الفرح على يباب الروح التي تيبست بفعل القهر واللوعة.

ويقال ان الرئيس السابق أحمد حسن البكر،عندما جاء الى بيته أواخر السبعينيات وجد أولاده يرقصون على الأرائك ويغنون “ استعجل يا ميل الساعة “ وعندما وجد الرئيس الفرح في عيون أطفاله، اتصل على الفور بوزير الثقافة وطلب منه ان يكرم الفنان الذي صنع هذه الأغنية.

وجد الثنائي مي ووحيد ضالتهم في الحان البصري الخفيفة الظل والمقبولة شعبياً، فعاودا الكرة بأغنية “ رايح وين كلي “.

أصدر البصري في العام 1980 البومه المشهور“كوه كوه” وهي الاغنية التي غناها عشرات المطربين دون نيل موافقة الفنان المسبقة، ثم اعقبه في العام 1982 بشريط “علميني شلون انسى” ليرسخ تجربته الإبداعية على ارض صلبة في ساحة الغناء العراقي ويكون على مدى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، المطرب العراقي الأول المطلوب في الحفلات والأعراس والمناسبات الاجتماعية الاخرى.

وبفعل الشهرة الكبيرة التي تمتع بها البصري، أنتجت له شركة بابل شريطين نذكر منهما “ نسيتيني “.. لكن ماهو السر في شيوع اغنيات البصري جماهيرياً والشعبية التي يتمتع بها؟

الجواب هو العفوية والصدق في انفعالاته الحسية والفنية، مثلما يصف هو ذلك، مستوحياً أغنياته من قصص الواقع والعذابات اليومية، فهو يبادل أوجاعنا بمسرات وقتية تنشد الفرح وتثير شهية الروح للانعتاق من الهموم نحو أفق الحرية والأمل.فضلا عن إخلاصه لفنه واحترامه لمباديء معينة لايحيد عنها،مثلا هو لم يقبل ابدا ان يجامل نزعة الحرب لدى النظام البعثي السابق ولم يسجل أي عمل فني لتبرير الحرب او تلميع النظام البائد وغيرها من المواقف.

واذا كانت تجربة البصري الغنائية تتسم بخفة الظل وقريبة من الحس الشعبي، فلا نعني انها سطحية وتذهب أدراج الرياح، فهو قدم فن السهل الممتنع بتلقائية إبداعية نجح من خلالها ان يكون قريباً من مشاعر وأحاسيس الجمهور. لكن هناك اغاني تتسم بالانتقالات المقامية والألحان المركبة التي تثير دهشة الملحنين الآخرين، كما في أغنية “ دمع شمعاتنا “ واغنية “ شفتج بعيني “ التي كتب كلماتها كريم راضي العماري.

وبالرغم من ان البصري كتب معظم أغانيه ولحنها بنفسه، الا انه تعامل مع مجموعة من الشعراء منهم طاهر سلمان وداود الغنام وحامد الغرباوي وغيرهم. وله تجارب في تلحين القصيدة مثل “ اني خيرتك “ للشاعر نزار قباني التي لحنها قبل الفنان كاظم الساهر بسنوات طويلة، كما برع في تلحين وأداء الأغنية السياسية الثورية والتمرد على السلطة الاستبدادية كان من سمات الفنان حسين البصري، بل هو محارب شرس ضد الفاشست والدكتاتورية ولم يغن للنظام الدكتاتوري السابق، الأمر الذي كلفه السجن وانحسار الضوء الإعلامي عنه، وعدم قبوله في دائرة الإذاعة والتلفزيون، رغم امكانياته الفنية وحب الناس له ونجاحه الجماهيري، وظل البصري الى يومنا هذا قريباً من أفكار ومشاعر الناس وبعيداً عن موائد الحكام، يصوغ من أوتار عوده ونغمات صوته الشجي أغنية للأمل والانطلاق نحو أفق ملون بالحب والحرية، رغم أن مساحة الفرح في أغنياته الأخيرة أخذت بالانحسار.


تعليقات

التنقل السريع