ستيفن أي كوك/عن مجلة "فورن بولسي" - ترجمة وإعداد: أنيس الصفار
خلال طوافي في الشرق الأوسط قبل سنوات التقيت بأنواع مختلفة من أناس، اثاروا اهتمامي كانت بينهم ذات مرة مجموعة من الطلبة الجامعيين. خلال حديثي معهم سألتهم: «ما هي الافكار والمبادئ والتاريخ والقضايا الوطنية، التي تجمعكم بأقرانكم في انحاء اخرى من بلدكم نفسه؟» فكان ردهم: «لا شيء» في تلك اللحظة خطر لي ان هذا هو صلب المشكلة في تلك البلدان، فما لم يوفق ابناء البلد الواحد في الاتفاق على افكار مشتركة تجمعهم حول معنى الانتماء الى بلدهم سيكون المصير كما يبدو هو البقاء طويلاً في حالة مستمرة من الانهيار المؤجل.
لا نريد بهذه المقالة بيان مدى التشابه بين الولايات المتحدة والبلد «س» أو «ص» في الشرق الأوسط، ولكن الأميركيين لم يكونوا يوماً مختلفين عن سواهم من أمم الأرض كما اعتادوا أن يتوهموا، لذا على الولايات المتحدة، مثلها مثل العديد من الدول في الشرق الأوسط ومناطق اخرى سواه، ان تتدارك الوضع المعتل المتعلق بهويتها. أشير بشكل محدد هنا الى الهوية الوطنية، الى الطريقة التي يعرّف الأميركيون انفسهم بها، الى علاقتهم بالدولة وعلاقاتهم ببعضهم البعض، بطبيعة الحال نحن جميعاً نمتلك ما يسميه علماء الاجتماع «ذخائر الهوية» وهو ما نسارع الى إبراز نواحِ معينة منه في الأوقات المختلفة حسب متطلبات الظرف والموقف، خير مثال عندي هنا صديق قديم على موقع تويتر يسمي نفسه «أبو الغامكوك» وهو اسم يعكس حقيقة كونه أميركيا من اصل مصري نشأ في ولاية كارولينا الجنوبية ومن المتيمين بجامعة «غامكوك». حكى لي ذات مرة كيف انه أميركي حين يكون بين المصريين وعربي حين يكون بين الأميركيين ومصري حين يكون بين العرب.
كثيراً ما يستغل القادة السياسيون مسألة الهوية لبلوغ مصالحهم، او مصالح بلدانهم. احد الزعماء العرب سعى من لحظة وصوله الى السلطة الى إعادة قولبة معاني القومية في بلده بالشكل، الذي ينزع عن خصومه الالداء صفة الانتماء الوطني، وهكذا سهلت عليه عملية ازاحتهم عن الطريق. دول أخرى في الشرق الأوسط أطرت التنافس القائم بينها بأطر الهوية الدينية، والصراعات تصبح أكثر استعصاء وأبعد عن الحل طبعاً حين تطرح وكأنها تنافس بين المذاهب والطوائف الدينية.
قد يتساءل احدهم: ما دخل هذا كله بالولايات المتحدة؟ الدخل كبير، فعندما كنت احاور الطلبة الذين ذكرتهم، تراءى لي حينها أن تطلعاتهم، هم واخوانهم في شتى انحاء بلدهم، مختلفة عن الأميركيين، لقد كان عندي بمثابة اليقين أني رغم انحداري من منطقة مميزة في الولايات المتحدة وتاريخي الأسري الواضح، فأني أبقى اشاطر باقي مواطنيّ في مختلف انحاء، بلدي الافكار الجوهرية ذاتها بشأن ما يعنيه كوني أميركياً، ادركت في ما بعد طبعاً أن هذا الشعور ينطوي على سذاجة وانه من نتاج خبراتي الفريدة وثقافتي، والدليل هو استمرار الظلم الذي يقع على الملونين والنساء والمهاجرين وغيرهم في بلدين، رغم هذا لم تبلغ بي السذاجة حد تصديق ان الغالبية من الأميركيين يمكن ان يتوافقوا على الروح الاساس، التي قامت عليها الأمة والشعور بأننا رغم تهاوننا تجاهها سوف نواصل النضال حتى نحققها.
مصداق ذلك زميل لي اكتشفت أنني وإياه نؤمن بكثير من المبادئ الجوهرية والأفكار، التي تقوم عليها هويتنا كأميركيين، الحرية، حكم القانون، تكافؤ الفرص، وكثير غيرها، ولكننا نختلف تماماً عندما يحل يوم الانتخاب.
رغم هذا صرت اتساءل مؤخراً، إن كانت هذه هي الحقيقة بمعناها العام؟ هل هناك كفاية من الاميركيين، الذين يشتركون في الاحساس بالانتماء الوطني، تسمح لنا بأن ننسب انفسنا الى هوية وطنية مشتركة؟ هل كنا كذلك في اي وقت من الاوقات؟ لقد كشف الرئيس «دونالد ترامب» وكرّس على مدى السنوات الأربع الماضية في المجتمع الأميركي مفاهيم زرعت بذور الشك في عقلي.
كنت اقرأ كتاباً مؤخراً يتناول تاريخ الولايات المتحدة في ما قبل الحرب الأهلية وابانها، فوجدت أن أوجه التشابه بين وضعنا الحالي والوضع في فترة ما قبل تلك الحرب صارخة الى حدود مقلقة، غير أني كنت أومن منذ وقت طويل بأن كفاح البلد وانتصاراته في الفترات اللاحقة، أعني إعادة البناء والحرب العالمية الأولى وفترة الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية، وحركة حقوق الانسان والحرب الباردة والعولمة والثورة التكنولوجية، قد داخلت نسيج هذا البلد من خلال الهوية المشتركة، ذلك التاريخ انتج اساطير حول المشروع الوطني الأميركي، الذي يستطيع كل فرد أن يشارك فيه.
لكن الحكاية بالطبع لم تكن دائماً حكاية بلد تغمره أشعة الشمس الدافئة، كما صوره المتغنون في أيام الرئيس «رونالد ريغان»، لأن إعادة الاعمار انتهت بالفشل ونحن لا نزال نعيش إرث «جيم كراو» وآراءه حول الفصل بين الاعراق، أما سياسات الهجرة الحالية فإنها وصمة في جبين بلدي، ورغم النجاح الذي حققته «كاميلا هاريس» فإن النساء ما زلن يتقاضين أجوراً اوطأ، كما انهن أقل شأناً ويتعرضن للإساءة في مجالات الحياة الأميركية المختلفة. بيد أن تلك الحكاية الملفوفة بالاساطير التي غدت محور الهوية الأميركية أسدت الى هدف توحيد الأمة خدمة كبيرة. من بين اقوى التجليات المادية لتلك الهوية جسر آرلنغتون التذكاري الذي يصل العاصمة واشنطن بولاية فرجينيا، بنصب لنكولن التذكاري الشاخص عند احد طرفيه ومقبرة آرلنغتون الوطنية ومنزل «روبرت لي» عند طرفه الآخر.
رغم بقاء كثير من الأميركيين خارج الرمزية التي يعبر عنها هذا الجسر، فإن هذا النوع من الإيماءات الموحية بالوحدة والهوية المشتركة هو الذي ينبغي الحفاظ عليه، لقد اجريت عمليات صيانة كثيرة على جسر آرلنغتون عبر السنوات، ولكن يبدو أن مغزاه الرمزي قد ضاع، وعند النظر الى عجزنا عن الحوار يبرز السؤال: هل ان الأميركيين راغبون حقاً في صياغة هوية مشتركة لهم؟
هذا كله يشبه الى حدود مقلقة ما لمسته من اولئك الطلبة الجامعيين حول رأيهم ببلدهم. فهم وأقرانهم في مناطق اخرى من البلد نفسه عانوا مصاعب جمة، جراء عجزهم عن الاتفاق على ما يعنيه الانتماء الى بلد واحد حد رفضهم فكرة الهوية من أساسها، عبر هذا الرفض عن نفسه في الشرق الأوسط بصورة اضطرابات سياسية وعنف وصراعات اهلية، والأميركيون ليسوا بمنأى عن مثل هذا المصير، رغم كل توهمهم بأنهم استثنائيون.
تعليقات
إرسال تعليق