بحث مميز للبروفسور (أ.د) داخل حسن جريو-عضو المجمع العلمي العراقي/خاص بـ (السماوة الدولية)
وخلاصة القول كانت مدينة السماوة تفتقر إلى الأفراد المتعلمين من خريجي المعاهد والكليات حيث تنتشر الأمية في صفوف أهلها وبخاصة في صفوف النساء , وأفضلهم يكتفي بختم القرآن الكريم على يد الملا شهاب الذي يتخذ من جامع الطرف الشرقي مقرا لتحفيظ القرآن الكريم , والملا محمد علي الذي يتخذ من جامع الطرف الغربي مقرا له , وتقوم الملالي من النساء بتحفيظ البنات الصغيرات بعض أجزاء من القرآن الكريم في بيوتهن حيث تكون أعدادهن قليلة . تجري عادة مراسيم ختم الصغار من البنين والبنات وسط أجواء الفرح وتوزيع الحلوى بحضور الأهل والأصدقاء,أما من يحالفه الحظ ويلتحق بالمدرسة الإبتدائية فيكتفي في الغالب بتعلم القراءة والكتابة. وبمرور السنيين إزداد الإقبال على المدارس الرسمية بزيادة وعي الناس وتحسن ظروفهم المعيشية.ويعزى ضعف إقبال الناس وعزوفهم عن التعليم الحكومي إلى تحريمه من بعض رجال الدين بدعوى تعارضه مع مبادئ الدين الإسلامي بتعليم الناشئة العلوم الحديثة التي تشير إلى أن الأرض كروية وإنها تدور حول الشمس وتدور حول نفسها وأن الغيوم عبار عن بخار ماء تسوقها الرياح وما إلى ذلك مما يعدونه خروجا عن الدين , كما أنهم كانوا يحرمون العمل في السلك الحكومي وتقاضي مرتبات يرونها أنها أموالا مغتصبة من الناس وما إلى ذلك من خزعبلات ما أنزل الله بها من سلطان.
كان المجتمع السماوي مجتمعا محافظا في عاداته وتقاليده, ومتصالحا مع بعضه البعض الآخر في الحضر والريف , برغم إختلاف سكانه دينيا بين أكثرية مسلمة وأقلية يهودية وبعض الصابئة المندائيين والمسيحيين , وطائفيا بين أكثرية شيعية وأقلية سنية. توجد في السماوة ثلاثة مساجد, إثنان للشيعة أحدهما في الطرف الغربي ويعرف بالجامع الكبير, والآخر في الطرف الشرقي, أما الثالث في الصوب الصغير فهو لأهل السنة والجماعة الذين يطلق عليهم أبناء العامة , كما توجد خمسة حسينيات , إثنان في الطرف الغربي وإثنان في الطرف الشرقي والخامسة في الصوب الصغير ,الغرض منها إقامة الشعائر الحسينية ومواكب العزاء واللطم في شهر محرم الحرام بصورة رئيسية وبعض المناسبات الأخرى. وهناك عدد من المجالس الحسينية التي تلقى فيها المواعظ الحسينية من الخطيب الشيخ موسى أو الخطيب الشيخ محمد رحمهما الله ,على مدار العام وبخاصة في شهري محرم وصفر وأماسي شهر رمضان , أبرزها مجلس السادة آل السيد جوهر وآل زين العابدين وصحن عبادة وآل محمد حسن وغيرهم , فضلا عن بعض مجالس عزاء النساء في المناسبات الدينية.كان الشيخ عبد الحميد السماوي أبرز رجال الدين في السماوة يومذاك.
وبرغم أن مجتمع مدينة السماوة مجتمعا محافظا في عاداته وتقاليده شأنه بذلك شأن بقية أفراد المجتمع العراقي , إلاّ أن ذلك المجتمع المحافظ لم يكن خاليا من بعض الممارسات اللاخلاقية , حيث كانت تمارس بعض أعمال الدعارة في بيوت يعرفها روادها, فضلا عن ممارسة البعض للرذيلة في السر,والأخطر من ذلك ممارسة الفاحشة بحق بعض الصبية من الذكور ليمتهن البعض منهم هذه الممارسة فيما بعد شأنهم بذلك شأن العاهرات . ويذكر أن الحكومة قد سمحت بإقامة بيوت للدعارة مجازة وتحت إشراف طبي في بغداد ومراكز المحافظات , ولم يتم إلغائها إلاّ في منتصف عقد الستينات من القرن المنصرم. ويحتسي بعض الشباب وبخاصة ممن نالوا نصيبا من التعليم الخمرة كمظهر من مظاهر التمدن في نظر البعض منهم. كما أن هناك مقاهي خاصة بلعب القمار بحماية بعض ممن يعرفون بالشقاوات منعا لأية إشكالات قد يلجأ إليها الخاسرون دون أن تتدخل الشرطة بفض هذه المنازعات , ويقوم بعض هؤلاء الشقاوات بجباية أموال من بعض ميسوري المدينة كلما دعتهم الحاجة ذلك .
شهدت المدينة تطورات نوعية مهمة في منتصف عقد الخمسينات في عهد قائممقام المدينة المدعو علي حيدر, تمثلت بإنشاء شبكة إسالة ماء لإيصال المياه النقية إلى بيوتهم ومحلاتهم مباشرة , بدلا من مياه النهر التي كانت تنقل إليهم مباشرة بواسطة ما يعرف بالسقى دون اية تنقية. وشهدت المدينة في عهده توسعا ملحوظا حيث قام القائممقام ببيع بعض الأراضي الحكومية الكائنة خلف محطة القطار بأسعار بخسة لتمكين المواطنين من بناء دور سكنية لهم , وبذلك شيد حي سكني كامل عرف بإسم حي الحيدرية. كما قام القائممقام بتوسيع الطرف الغربي من الصوب الكبير بتجريف بساتينه المثمرة والسماح لمالكيها بتحويلها إلى منطقة سكنية ذات مباني حديثة على الطراز الغربي. وشهد عقد الخمسينات تأسيس معمل لصناعة السمنت عند مدخل المدينة من جهة البصرة مما وفر فرص عمل جيدة لسكانها, إلاّ أنه كان مصدر تلوث بيئي خطير نظرا لعدم إلتزام المصنع بالمعايير البيئية اللازمة لحماية البيئة والتي لم تكن موضع إهتمام أحد في ذلك الوقت , وقد علمت أن هذه المشكلة ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر. ومن التطورات الأخرى إنشاء مستشفى حماية الأطفال في إطار المساعدات الأمريكية ضمن برنامجها المعروف بالنقطة الرابعة , وهي مستشفى حديثة ومزودة بأجهزة طبية متطورة بإشراف كادر طبي أمريكي , ليصبح فيما بعد كادر طبي عراقي. قدمت المستشفى خدمات طبية ممتازة في مجال الولادة ورعاية الأطفال ,وتوسعت كثيرا في السنوات اللاحقة بإضافة مبان أخرى. يؤخذ على هذه المستشفى أنها شيدت في حديقة واسعة كانت المتنفس الوحيد لسكان المدينة وبخاصة في المناسبات والأعياد. كان إنشاء هذه المستشفى يمثل نقلة نوعية في الرعاية الصحية للنساء الحوامل وأطفالهن مما كان له الأثر الواضح من الحد من وفيات الأطفال الرضع التي كانت أمرا معتادا إذ يندر أن لا تجد إمرأة متزوجة لم تفقد طفل أو أكثر عند الولادة أو بعدها , حيث تتم الولادات قبل ذلك في بيوتهن من قبل قابلات غير مأذزنات. كما أنشأت لأول مرة حضانة أطفال في منتصف عقد الخمسينات في قطعة الأرض المقابلة لمتوسطة السماوة للبنين في الصوب الصغير.
ومن التطورات الأخرى المهمة قيام مجلس الإعمار بإنشاء أول جسر معلق في العراق في مدينة السماوة بدلا من جسرها الخشبي العائم الذي تم ترحيله إلى ناحية الخضر التي كانت تفتقر إلى جسر لربط ضفتي المدينة. وقد دمرت القوات الأمريكية هذا الجسر بحربها العدوانية على العراق عام 1991.
ومن التطورات الأخرى تأسيس معملين حديثين للطابوق أحدهما من قبل الشيخ شنان آل رباط وشركاه والآخر من قبل المعمار كاظم جحيل في الجانب الغربي قرب محطة القطار. ساعد توفر مادة السمنت والطابوق الحديث وزيادة الوعي لدى شرائح واسعة من الناس على تحسن أعمال البناء وتشييد البيوت الحديثة على نمط البيوت الغربية المغلقة الفناء والمشجرة ببعض النباتات . كما إفتتحت متوسطة للصناعة إتخذت من مبنى المدرسة الثانوية مقرا لورشها ومختبراتها , وكانت المدرسة الوحيدة في لوائي الديوانية والناصرية , لذا تم إستئجار مبنى ليكون قسما داخليا للطلبة من سكنة هذين اللوائين المقبولين للدراسة في هذه المدرسة.
البيئة الإجتماعية والسياسية
لم تكن البيئة الإجتماعية والسياسية في مدينة السماوة مختلفة كثيرا عن مثيلاتها في المدن العراقية الأخرى بعامة ومدن وسط العراق وجنوبه بخاصة, ربما كانت أشد فقرا وأكثر تخلفا من الكثير من تلك المدن . يشكل سكان المدينة النسيج الحضري من سكانها حيث الأسر المترابطة عائليا عن طريق النسب أو المصاهرة , يمارس معظمهم المهن والحرف المختلفة لكسب قوتهم اليومي , بإستثناء قلة منهم تمارس بعض أعمال تجارة الحبوب وتصدير الأصواف وإمتلاك بعض البساتين ومزارع الحنطة والشعير. ويشكل سكان الريف الذي يضم معظم سكانها ,النسيج العشائري الذي يخضع لقانون العشائر لفض النزاعات التي غالبا ما تندلع بينها لأتفه الأسباب ويذهب ضحيتها الكثير من الناس, ويسودها الجهل ويتحكم شيوخها الأميون بمصائرها حيث يتفشى الجهل في صفوفها.
لم يدخل الكثير من أبناء المدينة المدارس الحديثة إلاّ في وقت متأخر بنهاية عقد الأربعينات بسبب تشويه صورة التعليم الحديث من قبل بعض المحسوبين على رجال الدين بدعوى إفساده لمكارم الأخلاق والإبتعاد عن أصول الدين , ومن إنخرط منهم بهذه المدارس فقد كان يكتفي بتعلم القراءة والكتابة , لذا لم تجد منهم موظفين في سلك الحكومة سوى بعض معلمي المدارس الإبتدائية وقلة من مدرسي المدارس الثانوية . ومما زاد الطين بلة إنخراط معظم من تعلم منهم في أنشطة الحزب الشيوعي ومنظماته المختلفة , مما ألحق الأذى بالكثير منهم نتيجة مطاردة الشرطة ورجال الأمن لهم , وعدم تمكنهم من مواصلة تعليمهم. وفي أعقاب ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 تحولت السماوة إلى مسرح مفتوح لنشاط الحزب الشيوعي وساحة للمظاهرات المؤيدة للحكومة بمناسبة أو بأخرى , مما أربك سير العملية التعليمية لاسيما في مدرستها الثانوية الوحيدة مما أدى إلى ضياع فرص التعليم المناسبة لطلبتها وهم على أبواب التهيؤ لإجتياز الإمتحانات الوزارية المؤهلة لدخول الكليات.
تعليقات
إرسال تعليق