د. زينب ساطع
منذ الصبا وقبل أن أتزوج وأنجب، كنت أحلم أن اسمي بنتي المستقبلية (فجر).... وبعد سنوات لم يرض زوجي وقال ان الاسم ثقيل وسيتنمرون عليها ويقولون لها انفجار ، إلى غير ذلك .. وعبثا حاولت اقناعه بأنه مأخوذ من الفجر وهو أكثر وقت مبارك ، وهناك سورة باسم الفجر وهناك مجلة مصرية ناجحة جدا اسمها فجر الاسلام .. لكنه رفض .. ثم ماذا .. ثم : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ..
المهم .. بقي اسم فجر يلاحقني دوما .. وهو (وقت) قلما أرى النوم فيه لأنه يشعرني ببركة اليوم أساسا.. وكلما مرت على الإنسان تجارب يرى ان في الفجر دوما أملاً متجدداً..
حاليا ونحن في منتصف أيلول الجميل حيث نودع درجات الحرارة العالية ونستقبل نفحات الخريف فإننا على أعتاب فجر معرفي رائع .. وهو بداية العام الدراسي الجديد ... فماذا يعني هذا الفجر !؟
هذا الفجر سلسلة معاني نبيلة .. فهو احترام وقت الصباح .. والنهوض المقدس ..هو فتح نافذة العقل لتطل على بساتين الحياة بثقة ...
مؤسف في هذا الفجر السنوي الجميل أن يسارع الأهالي لابتياع القرطاسية والحقائب والملابس ليظهروا ابنهم في أجمل حلة، ويتناسون تهيأته الفكرية للعام الدراسي.. هم يهتمون بمظهره ويغفلون عن جوهره، وكيف أنه خامة رائعة لصناعة المرء الصالح ...
العام الدراسي الجديد يعني الزي الموحد ، يعني الوقت الموحد ، الجرس الموحد ، حيث تتوقظ الأرواح لتطرق مواضع الإشراق..
العام الدراسي الجديد يعني بوق لبدء كرنفالات التعليم ومحافل المعرفة وتغذية العقل بشتى الأجوبة بعد طرحه شتى الأسئلة..
عن نفسي كل عام وحين ابتاع لأولادي القرطاسية أرى نفسي أكثر منهم فرحة بالألوان وأبقى أتخيرها وكأني أجهز عروسا لا طالبا ... حتى حدثت طرفة لي قبل يومين، إذ بعد ان اشتريت لوازم القرطاسية واعطيتها لابني الصغير عاتبني وقال: (ماما هذه الألوان مالت بنات انا مااقدر استعملها ) .. يا الله .. وانتبهت فعلا .. لقد جهزت أغراض دوامه بروح الطفلة التي في داخلي .. تبسمت وقلت له هذه لبنت عمك واشتريلك بعدين ...
فيا سادتي وشركائي بالتربية والتعليم .. الآباء والأمهات الكرام ..
ليس التهيؤ للمدرسة هو أن تلمع أحذية أولادنا، أو يُكوى القميص الأبيض والبنطال الأزرق بدقة، أو تمتلئ الرحلات بالأقلام والألوان وأشكال لا حصر لها من الممحاة والمبراة ... المسألة أعظم من ذلك بكثير .. المسألة أن تهتم لهذا الفجر البشري الذي بين يديك .. وتُعظم فيه حب النظام والعلم، وأن تُلمّع القيم والمبادئ كما تُلمّع الحقائب والأزرار، وأن نملأ نفوسهم الصغيرة بالمثل والنبل قبل ملأ الدفاتر والسجلات بالتخطيط الملون ...
إخوتي وأخواتي الكرام .. لقنوا أبناءكم أن الكتاب ليس مجرّد ورق، بل جناح طائرة يطل على عوالمَ لم تطأها الناس، وأن الحرف الذي يُكتب اليوم على السطر مهم وغال، وقد يكون غدًا مفتاحًا لبابٍ من أبواب الرفعة ...
نبّهوهم إلى خطورة مضيعة الوقت، وأن الزمنَ لا يعود، وأن الدقيقة التي تُهدَر خلف الشاشات ووسائل الألعاب والتواصل ، لا يُمكن شراؤها ولو بجميع أموال الوالدين.
قولوا لهم إن الألعاب الإلكترونية وإن ملأت الوقت والعين والذاكرة، فهي لا تبني عقلًا، ولا تُصعد سلما ولا تصنع ضميرًا.
اغرسوا حب المعلم ليكون له مكانته وهيبته حتى قبل أن يروه ، إذ من الجميل أن تفهموا أولادكم ان المعلم والمعلمة بديل الأب والأم في المدرسة، لأنه يُعيد تشكيل الطين فيهم، لينحت من الجهل علما ومن الضياع ايجادا .. واحترام المعلم ليس اختياري بل واجب مثل حل الواجبات بل حتى قبل حلها..
أنتم كذلك كنتم يوما ما فجرا جميلا لأهلكم ، فكونوا أكثر روعة لأولادكم ، وتحدثوا معهم عن الدين السمح، عن الثقة بالنفس، عن حب التطور ، عن ضرورة النوم المبكر ، عن مساعدة الزميل ، عن تقديس النظام ، عن المبادرة بالسؤال .. اذكروا لهم آثار العلماء لا هشاشة المشاهير .
تحدثوا إليهم عن جمال الهدف وتعب المحاولة وروعة الوصول ، حتى يعرفون أن للحياة قيمة وأن المسؤولية المبكرة تصنع رجالا ونساءً يُفتخر فيهم عبر الأجيال .
أعزائي القراء الكرام.. أكتب لكم وأنا ألقن نفسي بتلك المبادئ قبلكم، لأني أرى أن المدرسة ليست ساحةً للدرجات والشهادات فقط، إنما هي أرض تُزرع فيها البذور، وتُسقى بالقيم، وتنمو بالمتابعة والتحفيز والتشجيع، وتُثمر بالنتاج والإنجاز ...
فالبيت مكان ولادة جنس الانسان ، لكن المدرسة مكان صناعة هذا الإنسان..
القصد أيها الأحبة أن تجعلوا من هذا العام، فجرا لحياة جميلة، بدايةً لحياةٍ جديدة... لا مجرد عام دراسي عابر يخلو من الإبداع، ويفتقر إلى التفنن بالاهتمام .. أن يكون فجرا يحتضن أحلامهم مع أحلام أقماركم.


تعليقات
إرسال تعليق