عدنان سمير دهيرب/ نقلاً عن جريدة الزمان الدولية
لا مراء أن حضارة وادي الرافدين تشكل أحد منابع الثروة الانسانية , لما تنطوي على رموز و شواهد و كنوز تشي الى المستوى الباذخ لما صنعته عبقرية ذلك الانسان في الزمن البعيد , و لم تزل مثاراً للدهشة في كيفية تنظيم القضايا الروحية و المادية التي رافقت طفولة المجتمع والدولة والمدينة ، في بدايات النشوء التي غدت تالياَ قواعد لنشوء حضارة تنافس الحضارات الاخرى كالصينية والمصرية والاغريقية و الفارسية .
تلك الحضارة لم تكشفها الجوانب المادية وأخرى مغطاة بغبار التاريخ تم تشخيصها خلال القرن الماضي ومازال التنقيب عنها قائماَ فحسب , وإنما الجوانب الروحية ذات الأثر المباشر في الديانات الاخرى . فالقوانين و التشريعات و النظم تعد لغاية اليوم حية تؤثر في المجتمعات والاديان . إذ أن شريعة حمورابي التي سبقت قانون النبي موسى (ع) بعدة قرون و منها الوصايا العشرة المعروفة عند المسيحيين أيضاَ كما هو الحال عند اليهود , و كان بضمنها عقوبة الرد بالمثل و قطع يد السارق و غيرها من العقوبات التي كشفت موادها إنتحال القانون العبري (اليهودي) للكثير منها , و لتعطي دليلاَ أضافياَ بأن جزءاَ من التوراة المدون حالياَ و المتداول الى يومنا هذا … ماهو الا صياغة معدلة من (ملحمة الخليقة البابلية) مع القوانين السومرية و البابلية الاخرى ومنها قانون حمورابي و التي كانت سائدة في ذلك الحين في تلك المنطقة (جان بوتيرو, ولادة آله التوراة المؤرخ) و تعد ملحمة الخليقة من أبرز القصائد الشعرية في الادب الديني و واحدة من أكثر الروائع الادبية في محتواها و قدمها و شهرتها. تُعرف أيضاَ بقصيدة-(أينوما أيلش) حينما في العلى – نسبة الى فاتحتها . وهي تظم أكثر من ألف بيت شعر , و أسبغت عليها صفة القدسية من ( الكتاب الديني) وكانت تتلى أثناء أحتفالات رأس السنة في مدينة بابل و على مدى حوالي ألف عام (سمير حسن / تاريخ العنف السياسي) .
هذهِ الكلمات إشارة مختزلة و ليست مقدمة للخوض في يم ليس يسيراً الابحار فيه لكشف ما يخبئ , لاسيما و أن حضارة أوروك لم يكشف عن 95 بالمئة من آثارها لغاية اليوم بعد مرور قرن من التنقيبات فيها .
و بالرغم من شمولها على لائحة التراث العالمي عام 2016 ضمن اللجنة الثقافية لحماية التراث العالمي في اليونسكو و التي شملت الوركاء , أور و أريدو , التي أدرجت بحسب المعايير الخاصة بلائحة التراث العالمي و قبلها آشور في عام 2003، ومدينة الحضر عام 1985 ومدينة سامراء الاثرية عام 2007. لانسجامها مع معايير الاتفاقية الدولية للتراث العالمي بوصفها (قيمة عالمية إستثنائية).
أبرز تلك المعايير
1- يمثل أحدى روائع العقل البشري المبدع .
2- تتجلى فيه تأثيرات متبادلة قوية جرت على امتداد فترة من الزمن أو داخل منطقة ثقافية معينة من العالم , تتعلق بتطور الهندسة المعمارية او التكنولوجيا او الصروح الفنية او تخطيط المدن او تصميم المناظر.
ظواهر طبيعية
3- ينطوي على ظواهر طبيعية منقطعة النظير , او يضم مناطق ذات جمال طبيعي استثنائي و أهمية جمالية فائقة .
و غيرها من المعايير التي تؤكد على الاستثناء و الخلق و الابداع البشري في مراحل زمنية قديمة تقترن بأرض وشعب قدم للانسانية إنجازات باهرة . و كانت المواقع الاثرية بالاضافة الى الاهوار مطايقة لتلك المعايير و التي دعت 140 ألف سائح أجنبي من مختلف الدول لزيارة تلك الاماكن الاثرية خلال عامي 2020-2021. للاطلاع على جمالياتها و المستوى الحضاري الذي وصلته تلك المجتمعات قبل خمسة الاف عام و ماكشفته من معالم حضارية يتوجب حفظها في الذاكرة و عدم سقوطها في جُب النسيان .غير أن تلك المواقع و تحديداً آثار الوركاء –مثالاً- مازالت مهملة مثلما كانت قبل إدراجها على تلك اللائحة , ليس ثمة تخصيصات مالية للارتقاء بالبنى التحتية مثل أقامة سور يحميها من العبث او السرقة سوى سياج بي آر سي نصبته القوات اليابانية حين كانت في محافظة المثنى عام 2005 . كما لا توجد مطاعم او فنادق او متحف بالقرب من موقع الاثار او مظلات و مصاطب و تحديد خطوط تمكن السائح من السير بين الاثار وسهولة الوصول اليها , بل حتى مرافق صحية و ماء صالح للشرب لا توجد فيها .إزاء هذا السكون و الاكام في الارض اليباب , قفزت الى الذاكرة كلمات سائحة يابانية وصلت الى آثار الوركاء قبل بضعة أعوام , قالت لو انني لم أأتِ اليها كي تبقى – السطور التي قرأتها عنها و ما تحمل من معاني رسمت حضارة وادي الرافدين و العقائد الدينية و العادات الاجتماعية في العراق القديم , وجماليات الخيال الجامح في ملحمة كلكامش التي أثارت السؤال الأزلي هو الموت و الخلود . قالت لو لم أأت أفضل مما أشاهدها بهذا الشكل المحزن و الاليم .
تعليقات
إرسال تعليق