وليد النعاس/ نقلاً عن جريدة الزمان الدولية
رغم مرور ما يقرب السنتين ونيف على انطلاقة تظاهرات تشرين..، ما زالت الكتابات والدراسات عنها تؤرشف تأسيسها، وتقرأ أفكارها وخطوطها الكبرى، وحسها التنويري، بوصلة جديدة من الوعي المجتمعي في البحث عن الهوية العراقية.
وفي خضم تلك الدراسات المتباينة عمقاً تحليليا في قراءة حراك تشرين، تقفز أمامنا دراسة جديدة للباحث والأكاديمي الجامعي عدنان سمير دهيرب، وسمها بعنوان (( المعلومات.. الرمز.. الشعار..، دراسة سيميولوجية اتصالية في حراك تشرين))، والباحث هو أحد رهانات الذاكرة الصحفية في العراق منذ ثمانيات القرن الماضي، وله أعراف المؤسسة الأكاديمية في قراءة تظاهرات تشرين، مبتعداً بوساطتها عن الانشائيات الثرثارة التي أغرقتنا بها وسائل الاعلام المرئي.
ارساليات واعية
فهو يستند الى حصيلته المعرفية المتراكمة، وبهدوء الجراح يعاين الحدث (التظاهرات) من زوايا فهم ناضج، تعيد إدراك التظاهرات بوصفها إرساليات واعية وقصدية، لها تفسيرها العلمي المصاحب لبيئتها السياسية والاجتماعية والدينية، فضلاً عن كون الدراسة توثيقاً سيريا يؤرشف حقبة مهمة، سوف يستبصرها الدارسون في قادم الأيام.
وهذا الامر قد فطن له مقدم الدراسة، الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد، وهو قلم واستاذ جامعي مرموق في فضاء الاعلام، له قدح معلى لا يخطئه العارفون، وأحسب أن المؤلف (عدنان دهيرب) قد أحكم صناعة كتابه بهذا التقديم الاستشرافي لبضاعته البحثية، بوصفه جاء ممهداً يلامس ثيمة كتابه.والكتاب يقسمه الباحث على فصول ثلاثة، هي المعلومات والرمز والشعار، ثم أتبعها بمقالات ضرورية ربطاً بخطوط البحث الرئيسة، أو لنقل هي ظلالها التوضيحية التي أعطت مصداقية في تعزيز إدراك حرفة المؤلف (عدنان دهيرب) في تخصصه المعرفي.
ففي محور المعلومات نلحظ أن السرد التوصيفي الذي عرضه الباحث عنها، يشير الى إدراك خصائصها حقيقة علمية لها وقعها الدقيق حين تتبعها لغة ومفهوماً اصطلاحياً وأنواعاً، قصداً منه الى ملامسة مصادرها المختلفة من عدة زوايا، ثم ليقف بعد ذلك على خصائص المعلومة، بوصفها التبويب المنطقي الذي يرتكز عليه متخذوا القرار – حسب قول الباحث – ثم ينساق في تحليله ربطاً بمفهوم الأزمة متخذاً منها تسويقاً علامياً به يستبصر القراء أزمة التظاهرات، منذ ارتباطاتها الأولى بالجمهور، ليوقفنا الباحث بعد ذلك عند نماذجها الثلاثة (المحرك والروتينية والمقترنة بالأزمات) مستعرضاً وظائفها التي انعكست في جانب منها على بدايات أزمة التظاهرات في العراق، وما أفضت إليه من تطورات لاحقة استبصرها الباحث صيرورة أدامت زخم التظاهرات، مثل: الصراعات السياسية، المصالح الفئوية، التهميش، الاقتصاد… ، وغيرها مما كانت دوافع أزالت حاجز الخوف عن المتظاهرين.
ثم ينقلنا الباحث في جانب تأملاته البحثية، كيف أن التظاهرات لم تكن نمطية في مضمونها ووسائلها الاتصالية، رابطاً ذلك بتسليط الضوء في الوعي بالمعلومة لما تمتلكه من خصوصية في تفعيل السلطات، إذ يراها لا تسهم بالإجابة على الأسئلة الخمس التي تحير الجمهور، وأكثر من ذلك تقضي على كل إشاعة وتأزيم للوضع المتعلق بطبيعة الأزمة، … ومغذيات وقوع الأزمة، والحدث الذي يتطلب الانسجام بين طرفي الأزمة والجمهور، ( المعلومات. الرمز. الشعار: ص: 54-55).
ومن هنا يحيلنا الباحث الى توثيق ما فعلته الحكومة بعد خروج التظاهرات واتساع مدياتها، محاولة منها لتقليل غضب التظاهرات، ولكنها للأسف ((كل تلك القرات والقوانين لم تكبح جماح المتظاهرين واستمر زخم الجماهير والمطاولة في تحدي إرادة وقوة السلطة والأحزاب بشكل لم يشهده تاريخ العراق المعاصر، (المعلومة الرمز. الشعار: ص: 58)? ولذلك يؤكد الباحث أن المعلومات فد لعبت لعبتها المثيرة في التظاهرات العراقية، وهو ما يتجلى في انتشار الشائعات على حد قوله: ((وقد انتشرت الشائعات خلال التظاهرات كما لم تشهده أزمة في تاريخ العراق (المعاصر. المعلومات، الرمز. الشعار: ص: 63).
ثم يسترسل الباحث في بيان وجهة نظره، التي لاحظت أن القرارات العقابية التي توسلتها السلطات لمنع التظاهرات، قد باءت بالفشل أمام بروز ظاهرة المواطن الصحفي – على حد قوله -، وقد عزز الدعم الديني المؤسساتي زخم التظاهرات، بل ومنحها شرعية المعنى قدماً للوصول الى أهداف المتظاهرين.
ليختم الباحث قراءة فصل المعلومات بقوله: ((إنه بسبب غياب المعلومات المعززة بالصور والبيانات الدقيقة من قبل الجهات الرسمية…، يؤكد ارباك السلطة في إدارة الازمة. المعلومة. الرمز. الشعار: (ص: 78). واكاد اجزم أن فصل المعلومة في تلك الدراسة، بذاته يصلح ان يكون دراسة مستقلة لما حواه من مادة علمية غزيرة، وفي الفصل الثاني (الرمز) الذي اتصل بسياقه خيطياً، يفلي الباحث المفهوم وفق الدراسات الحداثوية ذات الخصوصية في علم العلامات قصداً منها بربطها معرفياً بتظاهرات تشرين، والتي أوصلت رسالتها في نسقين رئيسين أولها: اللساني وثانيها الايقوني، مع أن الباحث عرض سيميوطيقيا (بيرس) وسيميولوجيا (دي سوسير) ربطا بمفهوم (الرمز) ليخلص منه أداء يبثها المرسل الى المرسل اليه، وهدفه كما يقول اقناع المتلقي بطريقة غير مباشرة وليس فعلاً قهرياً إنما بوسائل تعتمد نمطين من الاستمالة المنطقية والوجدانية…، وأن يفهم رمز الرسالة لدى الجمهور المستهدف بشكل يتفق مع وضعها. (المعلومة. الرمز. الشعار: ص 98).
ولعل هذا الادراك المعرفي لمفهوم الرمز كان مدخل الباحث أن يصور للقارئ جانباً من تمثلات تلك التظاهرات التي وظفت الرموز معلماً تواصلياً مثل: الكرافيني، الطقوس الحسينية، العلم العراقي، جبل أحد، التك تك، …، مستعرضاً إياها وفق تحليل باصر وناضج وملم في بيانات استدعاها من قبل المتظاهرين، معززاً تفسيرها بالصورة التوثيقية، متأملاً محتواها وسيلة تطابق ذهنيا الحراك التشريني.
حراك تشرين
وفي الفصل الثالث من الكتاب وعنوانه (الشعار) يستعرض الباحث ارتباطه بالسنن الاتصالية جامعاً بين تأليف الشعارات واختلافها كحقيقة كشفها حراك تشرين، إذ يقول الباحث عن ذلك إن عدد الشعارات الكبيرة وتنوع مضامينها يشير الى ثلاث مستويات هي: ا
لقدرة على توظيف اللغة، واستدعاء الموروث وصياغته بما يتناسب مع الواقع الحالي والمستوى الثالث تقديم البرهان لتعزيز قناعات الرأي العام. (المعلوم. الرمز. الشعار: ص: 149).
وبعيداً عن الانشائيات الفارغة معرفياً التي تصدر عن محللي ثقافية الفيس بوك، يوقظنا الباحث على نتائج موضوعية يرصدها بوعي تحليلي مستنداً الى مرجعيات درسه الأكاديمي فهو يلحظ ثيمة شعارات حراك تشرين، وكيف تكون حقائق بريئة تجاوزت الخطوط الضوئية، بقوله: ولقد ارتفع زخم الشعارات والمطالب ويافطات المتظاهرين للمرة الأولى بطريقة مغايرة، اتسمت بالعمق والاثار بتقديم الافضليات العامة على المطالب الخاصة…، هذا المتغير كان آية حراك تشرين. المعلومة. الرمز. الشعار: (ص: 143).
ومن هذا المنظور يستقرء الباحث مدونات تلك التظاهرات ((انها كشفت عن تشوق المستقبل يقوده شباب تختلف بيئته السياسية والاجتماعية بفضل وسائل الاعلام الاجتماعية. (المعلومة. الرمز. الشعار: ص: 143).
وأحسب أن الخصوصية التي تجلت في شعارات تشرين والتي مسكها الباحث، كانت صيغا لغوية وطقوساً عبرت بعمق عن حضور جماهير تمثل وجوداً كونياً تجاوز المفاهيم الإثنية والعرقية، والذي يفترض من الأخر السلطة عدم تجاهلها أو التعالي عليها أو تهميشها والغاء هويتها.
ثم يتأمل الباحث الذاكرة الذهنية للعشارات وعمقها في متخلية الشعب العراقي، وكيف تمت إعادة استنطاقها من جديدة، وسيلة من وسائل التواصل، بدلالتي التعبير المباشر وبهدف الاقناع على حد قول الباحث، واصفاً بنيتها التركيبية والموضوعية، في ((القصر، الاختصار، الوضوح، سهولة التذكر) ليتمم مشهد قراءته عن تمثلات من تلك الشعارات، كانت لها ملاحمها المتفردة.
انعتاقاً من قاموس أيديولوجية السلطة ومن إسار خطابتها الملوثة بوهم الهويات الفئوية القاتلة. نحو هويات (شعارات) اوجدها الحراك مشعة مضيئة في مستوييها الرمزي والتعبيري.
فضلاً عما أثبته الباحث مما تؤديه من وظائف إعلامية ودعاية وتوجيهية وتراثية وتعليمية. وأكاد اقطع منهجيا ان كل واحدة من تلك الوظائف التي استعرض الباحث تمثلاتها. تستحق ان تكون دراسة مكتملة بذاتها، لأنها كانت الحقيقة التي كشفت خيبات المتظاهرين من السلطة التي حكمت العراق منذ الاحتلال (2003 لغاية الان).وفي ختام القول أحسب أن هذا الكتاب يكتسب أهميته العلمية في نقطتين رئيسيتين،
الاولى: المنهجية الاكاديمية التي افتقرناها في غيرها من الكتب التي خاضت في حراك تشرين، والثانية في سؤال الباحث المعرفي وهو يحاور النص (الشعارات ويكشف تعابيرها ومستوياتها المعلنة والمضمرة، وأدواتها التواصلية وقوة تمثيلها ورمزيتها. فضلاً عن الجانب التوثيقي السيري في تظاهرات تشرين، وللقراء العارفين إهتمام يفحصه مضمون الكتاب يجعله جديراً بالقراءة.
تعليقات
إرسال تعليق