أ.م.د. فريد حمد سليمان
فما آن لها الآن أن تترجل؟ حيث نميط عنها اللثام؛ حتى يلمع بريقها، ويتجلى رونقها وتكتسب هيبتها التي سُلبت منها ؛ لكي نبث فيها روح الفصحى من أجل أن تتعافى، وننتشلها من وهاد العامية التي حبستها خلف أسوارها وأحكمت عليها قبضتها، فأصبحت تئن تحت نيرها؛ لتأخذ مسارها الاستعمالي في متن اللغة منتظمةً في سلك الفصحى مُشكلة تراكيب لغوية تزدان بها سطور العربية التي كانت ترنو إلى تلك المفردات؛ كونها اختزلت منها بعد أن وسمتها العامية بميسمها، ولا يسعني إلا أن أعرض بعض ألفاظ الفلاحين؛ لتكون خير شاهد عليها مرتبة ترتيباً ألفبائياً.
• بُور:
يستعمل الفلاحون لفظ (بُور) للأرض التي تعاقبت عليها السنون ولم تباشرها الزراعة، والبُور في الفصحى (الأرض التي لا تُزرع) ونلحظ أنّ هذه المفردة لم تُنعت بها الأرض التي لا عهد لها بالزراعة فحسب، وإنما تُنعت بها المرأة التي لم تتزوج أيضا، إذ يُقال عنها: (بائرة) بإبدال الهمزة ياء، أي (بايرة)، تبقى المرأة كاسدة في بيتها من دون أن يخطبها خاطب. لم نجد فرقاً دلالياً بين العامية والفصحى، إذ إن مفردة (بُور) تدل على الأرض البكر التي لم تزرع، أو الأرض التي مضت عليها سنون عدة وهي لم تُعْمرَ.
• بيدر:
عندما ينضج الزرع ويباشر الفلاحون بحصاده يدوياً وبعد ذلك يكدّس الزرع المحصود ويسمى بـ (البيدر)، والبيدر في الفصحى (الموضع الذي يداس فيه الطعام) نلحظ أنّ الفصحى قيدته في الموضع الذي يداس فيه الزرع في حين العامية استدلت به على الزرع المجموع ولاسيما إذا كان كوداً عالياً.
• ثاية:
الثاية – عند الفلاحين – علامة توضع ؛ لغرض تحديد الأرض؛ ولاسيما المتنازع عليها، وغالباً ما تكون كوداً من التراب، والثاية في الفصحى (غير مهموز حجارة ترفع تكون علماً بالليل للراعي إذا رجع إليها).
الدلالتان متطابقتان في المعنى، لكن العامية وظفتها لتحديد الأرض المتنازع عليها في حين جعلتها الفصحى علامة يُهتدى بها في أثناء الليل ، أي إنّ استعمال الفصيح يُشيع في الحياة الرعوية بينما يُشيع العامي في الحياة الزراعية.
• دوسر:
الدوسر نبات ينبت إلى جانب الحنطة والشعير وكأنه نظير لهما فيتشاءم الفلاحون منه؛ وذلك لرداءته، وهو بالفصحى (نبات كنبات الزرع غير أنه يجاوز الزرع في الطول وله سنبل وحب دقيق أسمر) الدلالتان متلازمتان لم نلمح أي فرق دلالي بين العامية والفصحى.
• عرزال:
عندما ينضج الزرع، إذ يُصبح عرضة لمتناول الدواب ولاسيما الخنازير ، حيث ترتاده ليلا ؛ لكي تفتك به، فيقوم الفلاحون ببناء مكان مرتفع من الطين في وسط الحقل؛ تحرزاً لدرء
الخطر عن حقولهم فيتخذه الناطور وسيلة للترصد، والعرزال في الفصحى (شبه الجولق، وبيت صغير يُتخذ للملك إذا قاتل وسقيفة الناطور) يلحظ أن الدلالة العامية جعلته أداة للترصد في حين كانت الفصحى أكثر تفصيلا وقد اتفقت مع العامية في شق من الدلالة وهي سقيفة الناطور.
• قصيل:
تدور هذه المفردة على ألسنة الفلاحين، ولا سيما في أثناء موسم زراعة المحاصيل مثل: الحنطة والشعير، وإذا بلغ الزرع مرحلة من النضج فيقال: (صار ﮔصيل) بإبدال القاف ﮔافاً مجهوراً وكأنما أصبح في مراحل عمرية متقدمة، والقصيل في الفصحى ( ما اقتصل من الزرع أخضر) أي ما تّمّ حشه وهو أخضر ؛ ليكون علفاً للحيوانات. وسُمي (القصيل الذي تعلف به الدواب قصيلاً؛ لسرعة اقتصاله من رَخَاصته) وإنما لسرعة اقتطاعه كونه رخصاً حيث يتمتع بدرجة عالية من النعومة والطراوة فلم يكلف الحشّاش عناء ومشقة.
نلحظ أنّ الدلالة العامية حددت مفردة (قصيل) بطور من أطوار النمو التي يمر بها الزرع وبحسب ما متعارف عليه في لهجتهم. في حين تسمية الفصحى متأتية من سرعة الحش.
• كاث:
وهو الزرع الذي ينبت تلقائياً من دون حراثة، فضلاً عن عدم نثر البذور، وإنما تنبت البذور المتساقطة في الحقل منذ العام الماضي، فينمو هزيلاً مفتقراً إلى كثافة الأوراق وطول السيقان، وينطق في دارجتهم (ﭽاث) بإبدال الكاف جيماً مهموساً، و(تكويث الزرع أن يصير أربع ورقات وخمساً)، يبدو أنَّ هذ النوع من الزرع اكتسب هذه التسمية؛ من عدم كثافة الأوراق وبحسب ما أشارت إليه معجمات اللغة.
• هرفي:
يستعمل الفلاحون مفردة (هرفي) للزرع السابق لأوانه الذي يُزرع قبل غيره ويأتي أُكُله مبكراً ، والهَرْف في الفصحى (ابتداء النبات) ويقال: (هَرّفت النخلة، إذا عجّلت إتاءَها) الدلالتان متلازمتان لم تنفك إحداهما عن الأخرى، إذ تدلان على الزرع الذي يُزرع مبكراً.
لقد عرضت هذا النزر اليسير من المفردات الفصيحة التي بسطت العامية نفوذها عليها إلا أنّها تحررت من قيودها من خلال إثبات فصاحتها ، إذن لا ضيرَ من استعمالها في اللغة الرسمية المتداولة؛ لأنها لا تشكل حرجاً على المتكلم.
تعليقات
إرسال تعليق