عبد الحسين ماهود
أسجل في مفكرتي ما أفاد به الرواة بأن العام 1939 قد شهد أول عرض مسرحي في مدينة السماوة.. صنعه معلم في مدرسة السماوة الابتدائية وأطلق عنواناً عليه "خطبة امرأة" متأثراً بمشاهداته لعروض فرقتي حقي الشبلي وجعفر لقلق زادة أثناء زياراته إلى بغداد، وإلى عروض الفرق المسرحية الوافدة إلى السماوة آنذاك.
ويأتي ابتداء من العام 1957 دور معلم آخر وهو عباس جبارة ليؤسس أول فرقة مسرحية في ثانوية السماوة للبنين، قدم من خلالها مسرحياته التي مثل فيها طارق الدهان وصاحب محمد علي و شاكر رزيج فرج وعباس مكي. هؤلاء أكملوا دراستهم في الثانوية وانخرطوا في سلك التعليم وشكلوا فرقة مسرحية تابعة لنقابة المعلمين، قدموا عبرها العديد من المسرحيات تراوحت بين الارتجالية مثل "محو"، و"الابله"، والعراقية كـ "آنه امك يا شاكر" والعالمية كـ "روميو وجوليت". هم تشكيليون في الأصل وصار لهم اهتمام في المسرح. كل واحد منهم أخرج مسرحية ليمثل الآخرون معه ومع استمرار عروضهم المسرحية انخرط معلمون آخرون ليمثلوا معهم مثل "عبد الأمير جاسم، وثامر الدهان، وجودي جاسم، وهلال نعوم، وعبد الحسن جاسم، وكامل جيجان، وسعد كامل سراج، وكاظم أبو كلل" تسيدت هذه الفرقة الموقف وراحت تزهو بعروضها المسرحية من دون منافس لها في الساحة، لأنها كانت فرقة مغلقة على نفسها إلى أن أتيح لبعض أعضائها فرصة البحث عن دماء جديدة لرفد حركة المسرح في السماوة عندما اتيح لهم التنسيب لتدريس مادة التربية الفنية في ثانوية السماوة للبنين، ليشكلوا امتداداً لهم على مر السنين. فقد أخرج كاظم أبو كلل بتمثيل طلاب الثانوية في العام 1969المسرحية الكوميدية عمارة غناوي ومسرحية "أوديب ملكا لسوفوكليس" ليضع على الطريق القدرات الفنية لباسم العزاوي الذي برز كمخرج وباحث مسرحي وأستاذ في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعدنان الأحمر الذي عمل فيما بعد مصمم إضاءة في دائرة السينما والمسرح.
ولقد قدم شاكر رزيج فرج في العام 1970 من خلال فرقة الثانوية ثلاث مسرحيات هي: "غرفة بالنص" و"منطقة العبور" و"فراش المدير"، كاشفاً عن قدرات فنية في التمثيل "لعباس الراجب، وعبد الحسين ماهود، وعدنان أبو تراب، وحميد محسن، ومنذر حسن، وسمير شاكر وآخرون". تواصل منهم "عبد الحسين ماهود، وعدنان أبو تراب" بعد الانتهاء من عروض هذه المسرحيات بدأ عبد الحسين ماهود يكتب النص المسرحي ويخرجه ويمثل فيه لتقديمه ضمن أنشطة ثانوية السماوة للبنين حتى تخرجه في الثانوية وقبوله في أكاديمية الفنون الجميلة في العام الدراسي 1973/ 1974 ومع دراسته الأكاديمية وما بعدها راح يطور قدراته في التأليف والإخراج والتمثيل وفي النقد المسرحي مستثمراً عمله ضمن أسرة تحرير مجلة فنون التي انتمى إليها في سنته الجامعية الثانية.
كتب عبد الحسين ماهود أكثر من أربعين نصاً مسرحياً تضمنتها كتبه الثمانية وأخرج العشرات من نصوصه وفاز بجوائز الإبداع في ميداني التأليف والإخراج وجوائز التمثيل للعاملين معه. وصار العمل المسرحي لديه مضيئاً ومثيراً في دعمه للروابط الإنسانية وفي جرأته في التعبير على وفق نهج يرمي لصياغة وعي المتلقي وتربيته جمالياً وروحياً. فابتداء من إخراجه لمسرحية "ابن الأرض" في العام 1972 وليس انتهاء بمسرحية "مساكن مؤقتة" التي فازت بجائزة التمثيل لبطلها محمد السيد في مهرجان أيام ديالى المسرحية في العام 2019 كان يسعى إلى تأسيس فريق فني يحقق وجوداً مهماً للفنان بوصفه قوة مبدعة تحمل نفساً ثورياً، وزخماً فكرياً ووعياً حضارياً يدعو الى التغيير.
يحرص في نصه المسرحي على جوهره ويبحث عن الهدف الأعلى للشخصية ويحفر في تيار الأحداث بحثاً عن فعل إنساني مدرك لحاجته المرتبطة بالراهن من الزمن. وعلى مستوى التنفيذ يكون سيد الموقف الذي لم يتخل عن سلطته أو يرخي قبضته المحكمة بدكتاتورية ثورية لا تمنع الإصغاء إلى آراء الآخرين التي قد تجد لها صدى في نسيج العرض. الإخراج عنده فن الاختفاء خلف جهد الفريق ودفعه إلى الانسجام وتفجير ما يتوفر لديه من إمكانات دون استعراض أو بهرجة. اعتمدت عروضه المسرحية على الغور في أعماق الممثل عبر اختيار صعب يحدد مستوى وعيه وحجم إمكاناته ومدى انضباطيته وحبه وإيمانه بما يفعل، ومبعث اعتزازه في كون الممثل عنده لا يعرف له طريقاً يؤدي به إلى الاسفاف والابتذال، ومبعث اعتزازه الأهم شعور ذلك الممثل بكبره في عيون المتلقين شعوراً يتولد لديه مع كل اسدالة ستار. وحين اتجه بعمله إلى بغداد حقق ما يحلم به العديد من الأسماء بعد أن أصدر الكتب التي تضمنت نصوصه المسرحية التي خضعت للدراسة عبر رسائل جامعية، وفاز بالعديد من جوائز الإبداع على نصوصه وعروضه المسرحية، إن تجربته الفنية كانت الأهم في تاريخ الحركة المسرحية السماوية لشموليتها وغنى محتواها الإبداعي وتواصلها عبر عشرات السنين، وعلينا أن نبحث عن تجارب أخر تكمن في طيات هذه الحركة "حركة المسرح السماوي".
في صيف العام 1974 أقام عبد الحسين ماهود ورشة مسرحية انضم إليها متدربون من طلبة السنة الأخيرة في ثانوية السماوة للبنين وما بعدها، تلقى المتدربون الحرف الأول في لغة المسرح ليكملوا فيما بعد دراستهم الجامعية في أكاديمية الفنون الجميلة، ثم ويشرعون بعد التخرج في تحقيق إنجازاتهم الإبداعية على طريق المسرح السماوي الجاد وهؤلاء المتدربون هم "فاضل صبار، وناجي كاشي، وكنعان علي، وأحمد الفطن، وأحمد عبد جاسم، وخالد بركات، وجبار رحيم". والمؤسف ألا يرتبط هؤلاء في تشكيل موحد لتأتي نتاجاتهم متباعدة ومعتمدة على مبادرات فردية، فقد أخرج جبار رحيم مسرحيتي "لبنان عروس تغتصب، وبغداد الأزل بين الجد والهزل" وأخرج فاضل صبار مسرحيتي "فاوست والأميرة الصلعاء، وقصة حديقة الحيوان"، وأخرج ناجي كاشي مسرحياته: "من أجل انكيدو، ومدينة العقاب، ومقبرة الروبوت".
ومن الجدير أن نتطرق لتجربة ناجي كاشي، على اعتبار أن عروضه المسرحية المذكورة كانت سفيرة المسرح السماوي في مهرجانات عراقية وعربية أقيمت في بغداد، بالرغم من أن هذه المسرحيات لم تقدم في السماوة. نظّر ناجي كاشي لتجربته المسرحية عبر كتابه "الغرائبية في العرض المسرحي" الذي يتضمن رسالته للدكتوراه، ونحت على الصخر ليجد تطبيقاً لها عبر عروضه المسرحية المذكورة. برز ناجي كاشي عبر عروضه المسرحية كمخرج تجريبي يبحر في مساحات جمالية معاصرة ليرى نفسه ما بعد الأفق مثيراً ومستفزاً للذاكرة، متحركاً في فضاءات حرة وفاتحة لأسيجة العرض باتجاه طروحات في اللاوعي تنشد لعالم حالم يزعزع مرتكزات السياسة والفكر والفلسفة. الفلسفة التي لا تجد صداها في ذهن المتلقي العادي الذي لا يجيد فهم الخارق والمدهش والغريب والغامض وغيرها من مسميات الغرائيبة التي فقدت صداها بعد موت مؤسسها الذي أخفق مريدوه في أن يمارسوا السير على خطاه، ما جعل مسرحية "مهاجرون" لمخرجها أحمد عبد جاسم والمعدة عن قصائد "نزار قباني وعبد الوهاب البياتي ويحي السماوي" لا ترقى إلى قدرات ذلك الراحل العظيم ببعدها عن روح الغرائبية التي تفتح أسيجة العرض المسرحي وتعيد تكوينها على وفق ما يرتئيه عقل كاشي كباحث ينتج الفلسفة ومخرج يجعل من المسرح وسيلته للبوح.
غادر كل الذين تم ذكرهم هنا إلى جوار ربهم، ولم يبق منهم سوى عبد الحسين ماهود الذي ظل متواصلاً مع همه المسرحي حتى هذه اللحظة، التي يبرز فيها نشاط مسرحي لفنانين هواة من الشباب الذين لم ينخرط أغلبهم في معاهد وكليات فنية، وهم ينتجون أعمالهم بلا مرجعيات فنية، وقد يصيب الأقل منهم، ويخيب معظمهم، لأنهم بلا رصيد ذهني يعينهم على الإنجاز.
تعليقات
إرسال تعليق