القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

محمود سعيد  



دولمة وتعني باللغة التركية "ما يُعبأ" أو ما يُحشى. والأكلة العراقية تعني هذا بالضبط، ويطلق عليها المواصلة قديماً "يبرغ" وقد قُرض هذا الاسم، لا يستعمله أحد. اشتهيت الدولمة بعد نحو عشر سنين، من الغربة، ولم أستطع إيجاد الأكلة، في أي مطعم، لكني حينما ذهبت إلى اليونان، وجدت دولمة من البصل والفلفل والطماطم فقط، ولكنها لا تصل في مستواها وطعمها إلى الأكلة العراقية مطلقاً، لكني رضيت بها، ورأيت مثيلها لكن بعصير طماطم أكثر تركيزاً، في روما، ومايوركا، وكنت أشتهيها بين الحين والحين، فأسعفني أهلي بإرسال الكتاب الموسوعي الهائل "دليل الطبخ العراقي"، وهو في الحقيقة دليل شامل مرجعي للوجبات كلها، لم أجد له مثيلاً في جميع المكتبات التي ساهمت بمعارض الكتاب في الإمارات، ولبنان، والقاهرة، فكل كتب الطبخ العربية سطت عليه، بدون رحمة، وأغفلت متعمدة ذكره، وذكر مؤلفتيه الرائعتين "نزيهة أديب، وفردوس المختار"، فظلتا معزولتين في دهاليز الإغفال مع الأسف. أخذت السرقات من الكتاب أقسام: المعجنات، و"الحساءات" والمرقات بكلماتها وحروفها ووقفاتها وأنواعها، وهكذا. ومع الأسف بقي هذا الكتاب الموسوعي يطبع سنة بعد سنة، لعشرات السنين كما كان في أول طبعة، من دون تحسين في أوراقه وإخراجه. وهكذا يعتم على إنجازاتنا بوقاحة لا مثيل لها. دولمة أثينا وروما كانت خطوة أولى في إيجاد وجبة أحبها إلى أقصى حد، مما دعاني للتفكير بالنقص الموجود فيها لتصل إلى نتاج الذوق العراقي الفريد، حتى حاولت قبل نحو سنة طبخها، فقرأت ما كتب عنها بدليل الطبخ، واشتريت كل لوازمها، ووضعته في الثلاجة، وعندما بدأت بعملية الطبخ ثارت عندي أسئلة، فأرسلت بريداً إلكترونيا للدكتورة نوال نصر الله، "الخبيرة بالطبخ العراقي". فأجابتني في اليوم التالي، جواباً مقنعاً، لكني كنت أرجعت مواد الدولما إلى مكانها في الثلاجة، إ وكنت مشغولاً في ذلك اليوم، ولم أتذكرها إلا بعد أكثر من أسبوع، وعندما تفرغت لطبخها، أخرجت المواد، لكني شككت بسلامة اللحم المثروم، فرميته في القمامة، ولم أتفرغ لشرائه إلا بعد أسبوع، آنذاك ذبل السلق، والفلفل، فرميتهما في القمامة، وهكذا امتلأت القمامة بمستلزمات الدولمة، كلما أتذكرها بعد شرائها، وخلت ثلاجتي منها، حتى استطعت إنجاز المعجزة المستحيلة بعد نحو سنة، والحمد لله، وكان طعم دولمتي شبيهاً لما كان أهلي يعدونه في البيت، إلا قليلاً، لكني رضيت عن الطعم. آنذاك وأنا أمضغه بهدوء، أخذت أتساءل مع نفسي لماذا يقصرون في الأمكنة الحضارية الأخرى عن إعداده مثلنا؟ لقد اخذوا الوجبة منا، فلماذا لم يصلوا إلى مستواها؟ وما النقص عندهم، وعندما فكرت رأيت أن السبب أنهم لا يضعون ملفوف السلق فيها، واقتصروا على الطماطم والفلفل والبصل، لسهولة ملئ ذلك بالرز، وتركوا السلق، وهو الأهم والأطيب، لأنه يأخذ وقتاً في لفه وإعداده، وما يزال طعم دولمة السلق الذي تعده ابنة اختي المرحومة سعاد على لساني والذي ذقته آخر مرة عندها قبل أكثر من أربعين سنة، وكانت المرحومة أفضل طباخة في العائلة، تذكرت كل ذلك عندما ذقت الدولما في بيت د. نسرين أختر، ولكنها لم تكن من السلق، كانت من أوراق العنب فقط، لم تخلط معها أي خضار. لف أوراق العنب أسهل من السلق، لأنها بأحجام تكاد أن تكون متساوية، فيأتي اللف متماثلاً، متساوي الحجم، كأنه ملفوف بآلة مصنوعة له فقط. فكأنك تأكل بعينيك قبل فمك، كما يقول المثل العراقي، لكني أتيح لي أن أتذوق دولمة حقيقية عراقية هائلة، عندما استجبت إلى دعوة من روائية عراقية كانت تعيش في ضاحية في شيكاغو، استمتعت بروايتها "حائرات" غاية الاستمتاع، ولولا ذلك لما لبيت دعوة عائلتها، كنت آكل وأفكر بعجرفة نقادنا الذين لا يكتبون عن الجيد إلا بتوصية، او توسط، فساد التافه والسطحي، وترك الإبداع الحقيقي، فلم تشتهر "فاتن" وهذا اسمها، وبقي اسمها مغموراً، وبقيت نتاجها درة يتيمة في أرقام مكتبة الكونكرس مع الأسف، فانتقلت إلى مدينة أخرى، ولم استطع زيارتها ثانية. عندما طبختُ الدولمة "أنا"، تكلمت مع د. عماد. عنها، فقال لي: دعني أذق قليًلا من ملفوف السلق فقط، ولحسن الحظ، طبخت لثلاث وجبات، فأخذت واحدة له، وعندما تناولها، قال لي كم عندك؟ فتذكرت أنه قارئ نهم لما أكتب، قلت له: كذا رواية، وكذا مجموعة قصص، قال لي: ما هذا قصدت، كم دولاراً، قلت مئة وخمس وخمسون دولاراً. ضحك. قال لي: إن أردت رأس مال أعطيك وافتح مطعماً مهما كلف، واكتب اسمه دولمة و"جاي" باللهجة العراقية، وكتابة الشيء نفسه باللاتينية، ولا تخلط معه أي شيء، إلا شوربة عدس إن رغبت. وستصبح مليونيراً، والربح مناصفة. وصادف أن اتصل بي صديق من السويد، فأخبرته بذلك. قال لي دعك منه أنا أشاركك، عندي مئة ألف دولار، استطيع أن أدخل الولايات المتحدة بلا تأشيرة. وأرجع إلى أهلي كل ثلاثة أشهر لمدة أسبوع وأساعدك بالعمل، أيام بقائي معك. قلت له: سأفكر. كان ذلك قبل خمس عشرة سنة، واليوم اتصل بي د. عماد. وسألني أما اشتهيت الدولمة؟ قلت له نعم، عندما ذكرتها الآن. وغدا سأبتاع لوازمها، لكني لا أدري متى سأطبخها؟ قال: المهم لا تنسني.

تعليقات

التنقل السريع