القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

 محمود سعيد الطائي



باب لكش محلة في الموصل انتقم منها الإيرانيون ومن والاهم، ودمرت كما دمرت محلات الموصل الآخرى وبيوتها، وقتل كل ساكنيها تحت القصف، أو القنص، أو التفجير، لكن أسمها "لكّش" اسم فريد لأنه أعظم وأقدم من جميع أسماء الأمكنة العراقية، فهي أول مدينة أنشأها السومريون في العراق، وعاصمة لهم، وأطلق عليها قبل الفتح العربي، وكان فيها معبد سومري ظل عاملاً حتى أزاله الساسانيون حين احتلوا الموصل، فاتخذ المواصلة آنذاك تلك فرصة لمعاداة الحكم المحتل، فاعتنقوا احد مذاهب البوذية، ومن باب لكش وباب جديد الملاصقة لها انطلقت المقاومة الشعبية ضد نادر شاه، وتحدى الشباب المواصلة أعداء العراق المهاجمين فكانوا يتسللون من الأسوار ليلاً فيهاجمون معسكر نادر شاه فيقتلون ويثيرون الفوضى ويهربون، وعندما انتدب عبد الفتاح بك، فدائيين للهجوم على جيش نادر شاه الذي كان أكبر جيش في التاريخ يهاجم الموصل "200 الف مقاتل"، كان شباب باب لكش في المقدمة لأنها قريبة من باب العراق بيت الحاج حسين قائد المقاومة ووالي الموصل آنذاك، فقتلوا نحو 200 من الجيش المهاجم، وقتل منهم نحو عشرين، ورجعوا ومعهم غنائم، ولأن موقع باب لكش وسطاً في جنوب الموصل فقد فٌتح فيها مدرسة إبتدائية زارها الملك فيصل الثاني، وبعد نحو أربعين يوماً من حصار نادر شاه للمدينة، ذاق ذرعاً بالمقاومة التي أبداها المواصلة، فجمع قادة المدفعية وهددهم بالذبح إن لم يحدثوا في اليوم الحادي والأربعين ثغرة في سور الموصل، وتحت نصيحة أحد المهندسين المتعاونين الذين خانوا الوطن والمجاهدين، وتعاونوا مع نادر شاه، ركّز نحو خمسمئة مدفع على بضع نقاط في السور ليلهي بها المدافعين ويشتتوا اهتمامهم، ثم ركز في الوقت نفسه خمسمئة مدفع آخر على نقطة واحدة في السور، لثلمه، إذ كان مع جيش نادر شاه 1000 مدفع، فقط، و50000 الف هاون. فأحدثوا في السور فتحة أطلق عليها المواصلة الثلمي "الثلمة" يستطيع الفارس وهو على ظهر جواده أن يدخل المدينة منها، وكان هناك فرقة خيالة مستعدة لذلك معظم أفرادها من العراقيين الخونة المتطوعين مع نادر شاه، فما إن لاحت الفتحة، حتى اندفعوا فيها بكل قواهم، لكن هذه المفاجأة التي ظنها نادر شاه ستكون الخطوة الأولى لاحتلال الموصل، أصبحت النقطة الأولى لهزيمته فما إن اجتاز نحو خمسين خيالاً الثلمة، حتى تفجرت الأرض تحتهم، وتطايرت أجسادهم وأجساد خيولهم في المنطقة كلها، لكن نادر شاه كان موجوداً بنفسه خارج السور يحث جنده على الاستمرار في اقتحام الثلمة، لكن لم يستطع من اجتازها أن يبقى حياً، إذكانت رصاصات المقاومين وسيوفهم تتناتشهم حالاً، حتى كادت أجساد القتلى تسد الفتحة التي كانت تضيق حيناً بعد حين، ولم يبق فيها سوى دائرة صغيرة، فاندفع إليها بضعة فدائيين كانوا يقتلون ما إن يصلونها، لكنهم أفلحوا في سدها بأجسادهم وهم موتى، عندئذ بدأت الخمسمئة مدفع بكل طاقاتها تقذف الفتحة من جديد حتى فتحتها، ثم توقفت بعد بضع دقائق، لأنتهاء القذائف، وتحت تشجيع نادر شاه اندفعت خيالته باقتحام الفتحة واجتيازها، لكن أجسادهم تناثرت بفعل المدفعية المضادة العاملة في المدينة، والتي كانت قد أعدت من القذائف ما يكفي شهوراً، وكان المواصلة آنذاك يصنعون البارود ويصدرونه إلى بغداد والمدن الأخرى، وكانت هناك محلة تسمى البارودية، يصنع أهلها البارود، بالقرب من الثلمة، ومن لم تصدّه المدفعية تخاطفته أسلحة المدافعين عن مدينتهم، فتوزع جسده على السيوف الماضية، آنذاك اصبحت الفتحة فخاً هائلاً، ففي الوقت الذي تطوّع مئات الفدائيين من سد الفتحة بأجسادهم، كان هناك من القناصين المهرة من يردي المهاجمين حال وصولهم الفتحة، وإذ باغت المساء جميع المتحاربين بظلامه، كان هناك فريق معدّ أزال جثث القتلى في لمح البصر، وبدأ البناؤون بسد الثغرة بصخور حُضِّرت من قبل لذلك، وفي خلال دقائق معدودة، عاد السور صحيحاً، حامياً للمدينة، فلم يعد هناك ثلمة ولا فتحة، كما لم يعد هناك مدافع ولا قنابل عند نادر شاه، واخذ الفلاحون العرب القادمون من جوار الموصل، والذين تطوعوا لمساعدة الموصلة معنوياً، يدورون حول السور، وهم يتظاهرون بخدمة جيش نادر شاه ويبيعونه بعض ما تنتج أراضيهم، واخترعوا وسيلة لتطمين أهل الموصل هي الغناء بصوت عالٍ "دبشينا- الرقي" خلص، نحن جائعين كالأطفال، لا نعرف ماذا نفعل. فعلم المدافعون أن القنابل انتهت، فاشتعل حماسهم وارتقوا الأسوار يتصيدون كل من يقترب من السور من جنود نادر شاه، لا بل كان فيهم قناصة استطاعو إصابة جنود نادر شاه البعيدين عن السور، حتى اضطر نادر شاه أن يرفع العلم الأبيض.
ظلت الثلمي ماثلة للعيان، رمزاً حياً للمقاومة، حتى هدم السور في منطقة باب جديد في العشرينات بعد قيام الحكم الوطني، إذ أصبحت منطقة الثلمي تحوي بيوتاً ومقابر تدعى بنفس الاسم "الثلمي"، كان الناس يأتون جماعات وبخاصة يوم الجمعة يقرؤون القرآن على أرواح شبابهم، ويوزعون الصدقات، وفي آخر زيارة لي إلى الموصل لم استطع تحديد أي بيت من بيوت الثلمي أو باب جديد الملاصق لها من الجنوب، أو باب لكش من الشمال، لم استطع أن أرى أين ينتهي بيتنا أو أين يبدأ بيت صديقي، أو بيت اختي، أو ابن عمي، إذ أنتقم أحفاد نادر شاه له من أهل الموصل شر انتقام سنة 2016، فردم معظمهم تحت انقاض بيوتهم في القصف، واستقر نحو 350 ألفاً منهم في مخيمات لا تصلح لسكن الفئران، ومات نحو نصف مليون تحت الأنقاض، وأبيد الباقون قنصاً أو في المعتقلات والسجون، وكانت تلك بداية تغييرات التركيبة السكانية، والخطوة الكبرى الانتقامية التي ثأرت لهزيمة نادر شاه أمام أسوار الموصل.

تعليقات

التنقل السريع