القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

عدنان سمير دهيرب/ نقلا عن جريدة الزمان الدولية




لا تمحى من الذاكرة سنوات القهر السياسي و القحط الاقتصادي . فهي لم تزل حاضرة في الحكايات الفردية و السرديات الاجتماعية , عقود و أعوام و أيام كان فيها الانسان العراقي يشعر بالاحباط و الفقر و الفاقة و القمع و الحروب و كل أشكال التدمير النفسي و التقزيم حتى أصبح شكلاً هلامياً و عدمياً إزاء نظرته الى الحياة و فقدان الأمل في التغيير لفرط الخوف و الرهبة من سجن تطوقه أسوار غير مرئية تبدأ من الذات و لا تنتهي عند حدود المدينة و البلد المكبل بأغلال السلطة .

ذلك المشهد رسخ فكرة عدم إزاحة النظام الدكتاتوري الذي زرع في الانسان الرقابة و الشك حتى من ظله اذا ما فكر في الحديث عن السياسة و غياب الحرية و قمع الاجهزة الأمنية متعددة الاسماء و العناوين و وظائفها و تغولها , ما أفقد الشعب القدرة على التحدي في مقارعة تلك الاجهزة من ناحية و لقدرة النظام على القمع من ناحية أخرى بفضل الدعاية التي تقتحم المجتمع سواء من خلال أجهزة الاعلام و السلوك الاستبدادي الهمجي الذي يطبق إزاء كل جهة معارضة و إنتشار تلك الافكار كالنار في الهشيم عند كل جريمة بشعة تنفذ من خلال اساليب التعذيب المرعبة للمعارضين في السجون او الاعدامات التي ينتقل أثرها الى المجتمع و توجب الخضوع و الرضوخ للسلطة , حتى أمست صفة يتسم بها الجميع و هي أحد أهم أساليب الطغاة لصناعة القطيع .

إزاء هذا الواقع المرير و الدموي ليس أمام الناس التي فقدت الجرأة سوى الانحناء , و الدعاء الى الله بالخلاص و إزاحة النظام . و هذا الامر لم يكن للمواطنين الساخطين في داخل البلد و إنما للمعارضين في الخارج , إذ ذهب أحمد الجلبي رئيس حزب المؤتمر الوطني عام 1993 الى آية الله محمد رضا غالبا كياني و كان في الرابعة و التسعين من العمر و يعتبر العلامة المقدس و ركن الجمهورية الاسلامية الايرانية . و يذكر ريتشارد بونين في كتابه سهامُ الليل: وصل جلبي الى منزله ببزة و ربطة عنق , و قاده أبن آية الله الى غرفة خاصة يجلس فيها غالبا كياني وحيداً على سرير , ساقاه متربعتان و يداه على ركبته .

أقترب منه و همس في أذنه أني أبن عبدالهادي جلبي . التفت آية الله , و سأل ماذا أريد . قلت له (ما أريده أيها المقدس , هو أن تنضم إلينا بـ سهامُ الليل لمحاربة صدام ).

سهامُ الليل عند الشيعة هي الصلوات و الدعاء باللعنات التي يرفعها الى السماء المظلومون و الأبرياء , و قد وردت الجملة على لسان أحد الأئمة الشيعة الاثني عشر , و ترمز الى الخضوع لله و الى قوة الضعيف ((و الذي تسأل عنه في الليل اذا كنت مؤمناً)) بمعنى أن تكون صلواتك مستجابة فتعود كما السهام نحو أعدائك .

غير أن جلبي لم يذكر لآية الله شيئاً عن تحالفه مع الولايات المتحدة الأمريكية لازاحة نظام صدام .التي نفذت  مخططها في إحتلال العراق بعد عشرة أعوام إثر حرب الخليج الثالثة و حصار مدمر أدى الى إنهيار المنظومة القيمية و تخريب الاقتصاد , و تسلل الضعف الى بنية الدولة , التي أستمرت غطرستها و رهبتها على الشعب , الذي لم يكن أمامه سوى الدعاء و الهمس بتحقيق الأمنية التي كانت بعيدة المنال في الخلاص من طغيان السلطة .

ثورة جماهيرية

 إن تغيير الانظمة السياسية لا يتم عن طريق الدعاء و إنما بالثورة الجماهيرية أو الانقلاب العسكري أو صناديق الاقتراع و هي سبل معروفة في عملية الأزاحة السياسية

غير إن العراق شهد تغييراً سياساً صادماً على الطريقة الاستعمارية بالغزو العسكري . و هو جزء من أساليب المخابرات الأمريكية في الاطاحة بالانظمة السياسية و إغتيال الزعماء السياسيين و صناعة الجواسيس في مختلف البلدان إضافة الى تغذية وسائل الاعلام بخطاب يلامس تطلعات تلك الشعوب في الحرية و حقوق الانسان و العدالة الاجتماعية التي تشكل هدفاً للشعوب المقهورة .

و الحقيقة التي كشفها الواقع بعد عقدين من النظام السياسي الجديد , إن تلك العناوين المبهرة لم يتحقق منها سوى الجانب الرسمي بصناعة نظام هجين . و الدخول في جُب الخلافات و الانقسامات و العنف بدخول الجرذان بذريعة إصطيادها في العراق , و إقامة نظام تحاصصي يكرس الصراعات و اللهاث خلف السلطة و المال و النفوذ و هدر الأموال , و التواري خلف المرجعيات الفرعية , إضافة الى تفشي أمراض إجتماعية و إقتصادية و تدخلات إقليمية و دولية و خروقات أفقدت الدولة سيادتها على البلد .

بمعنى أن اللامرئي أصبح مرئياً في عملية التحول من خلال السلوك المرتبك للنخب السياسية و الجمهور .

وغدت الاختلالات التي أصابت المرحلة الانتقالية الهشة . ساندة لذات المخططات التي بدأت قبل التغيير , لإضعاف العراق الذي يُعد ذؤابة العرب , أصالة و إنسان و ثروة , من خلال إشغاله في صراعات داخلية و قوى سياسية و تقليدية أستمرأت لعبة التحاصص لإرواء الظمأ الى السلطة , و تغذيتها على أساس الولاء لا الانجاز و الكفاءة .

لذلك فأن إستشراف المستقبل يأتي بعد تفكيك تلك الاساليب , بالوعي و المحاكاة للتجارب الأخرى , و الحراك الاجتماعي السلمي و الحوار العلني , و ليس بسهام الليل التي ترتد على أصحابها لأن الله لا يستجيب للكسالى فكرياً و جسدياً و الغارقين بالاحلام و التواكل على الآخرين . فالشعوب تنهض بالتفكير و العمل و الحرية إضافة الى التمسك بالأخلاق المتمثلة بالنزاهة و التفاني و الاخلاص , للوصول الى الغايات التي كانت و لم تزل تداعب مخيال الشعب بالعدالة الاجتماعية و التضامن و الامن الانساني الذي يشكل منطلقاً للتمكين و التنمية لتحسين جودة الحياة .

تعليقات

التنقل السريع