عدنان سمير دهيرب / نقلا عن جريدة الزمان الدولية
لم تًزَل العلاقات النووية والاسرة الممتدة والحمولة والعشيرة والقبيلة أحد السمات الاجتماعية المميزة للمجتمع العراقي. هذا الترابط والتماسك شكل قوىً تظهر وتخبو مع المتغيرات السياسية المقترنة بقوة الدولة أو ضعفها، سيطرتها واضمحلالها منذ تأسيسها قبل مئة عام ولغاية الآن.
ويتجلى التشابه إبان الازمات التي تسود في المجتمع والدولة بحكم الملامح الواقعية المعطيات المتكررة , لتلك الازمات التي ما برحت سائدة . واذا ما كانت سياسة الدولة خلال العقود المنصرمة تسعى الى كسب قاعدة جماهيرية تساندها وتكسب الشرعية من خلالها , بأشكال متعددة سواء بعطايا المال، القانون والقوة، فأن تلك السلطات اعتمدت في أحايين كثيرة الى إحياء دور العشيرة بوصفها إحدى البنى التقليدية الرئيسية للمجتمع.
ولكن تلك البنية لم تعد تحمل ما تتصف به قبل عقود فقد توزع أبناؤها بين الريف والمدينة , وغدت ثمة مصالح جديدة فرضها واقع جديد على القاطنين في المدن. إذ أنهم اندمجوا بوظائف الدولة ومهن التجارة وخدمات التعليم والطب والهندسة وسائر الوظائف والمهن الاخرى، واصبحوا يشكلون طبقة وسطى تسعى النظم السياسية والاحزاب بمختلف ايدولوجياتها الى احتواءها لما تحمل من مقومات تدعم الدولة وتتكئ عليها الاحزاب سياسياُ واجتماعيا، فضلاً عما أمدتهم به المدينة وبيئتها المؤثرة على سلوكيات واتجاهات مغايرة لما تحمله المجتمعات القروية والريفية المحافظة على تقاليدها وعاداتها وطقوسها وثقافتها المتوارثة التي لا يمكن للمرء أن يحيد عنها.
إذ أن بيئة المدينة تغذي مواطنيها بأسباب تتعلق بالوعي، التحول، التمرد، والاستقلالية الفردية بما تلتقي مع تطلعاتهم الحديثة المرتبطة بسياسة الدولة والمصالح الاقتصادية والرغبة بالتغيير والاصلاح وارتباطهم المباشر بالواقع الذي يعيشونه والمقترن في الغالب بالإجراءات السياسية للحكوم، لذلك فأن كل الانتفاضات والاحتجاجات والتظاهرات تنطلق من المدن والحواضر . ففي عام 1991 انطلقت الانتفاضة التي شهدها العراق من معظم المدن ولم تكن من الريف، والتي دفع فيها الشباب الثمن بالاعتقال والاعدام والهروب والهجرة , ولكن ((قبلية الدولة)) مثلما يرى المفكر فالح عبد الجبار مكنت نخبة هزيلة هشة من أن تدمج الشبكات القرابية لتستخدمها في سيطرتها على جهاز الدولة كنظام للحكم (الدولة اللوياثان الجديد ص353 ).
وأخذ رئيس الدولة بأجراء سلسلة من اللقاءات الدعائية مع شيوخ العشائر بهدف كسب ولائهم وخلق قاعدة شعبية لحكمه بمنحهم الامتيازات وفق مقاسات معينة لفرض هيمنته عليهم بوصفهم أدوات مؤثرة في مجتمعاتهم والمناطق التي شهدت الانتفاضة , دون الاهتمام بالفئات التي تشكل النواة والقاعدة للانتفاضة , مما انعكس على استمرار الهوة بين السلطة والشعب والتي أفضت الى الانهيار الكبير .
وهذا الامر استمر بعد الانهيار بأحياء العشائرية والهويات الفرعية الاخرى كالطائفية والاثنية التي أفقدت الدولة وحدتها وقوتها وتماسكها. وسياساتها الفاقدة للعدالة الاجتماعية التي أفضت الى انطلاق تظاهرات تشرين من المدن أيضاً مع اختلاف الاسباب والنتائج. والاتفاق على هدف التغيير والاصلاح والتمسك بالديمقراطية كشكل للنظام السياسي.
تلك التظاهرات المدينية لم تكن البيئة العشائرية حاضنة لها أو مغذية لها، وإنما عوامل أخرى ديناميكية ما زالت تغذيها. ولكن (قبلية الدولة) راحت تفكر أيضاً بضرورة كسب الجمهور من خلال اللقاء بشيوخ العشائر، وليس الاحتواء والحوار واتخاذ الاجراءات والتدابير التي يطالب بها الشباب المديني الذي قدم أثماناً فادحة دفاعاً عن الحرية والاصلاح الشامل وتلبية الحاجات ومعالجة الاسباب التي دفعتهم للدعوة الى التغيير . فما زال رؤساء الحكومات يعقدون اللقاء تلو الاخر لحسم صراع سياسي مع جهة غير مسؤولة عن انطلاق هذه التظاهرات وقبلها منذ عام.2011
وهنا ليس المقصود من هذه السطور ايحاء الى الغاء اهمية ودور شيوخ العشائر في مجتمع ما زالت الثقافة العشائرية تشكل رافداً مهماً في الواقع العراقي، بل هي مؤثرة مع تصدع قوة مؤسسات الدولة، غير أن القوى الاجتماعية التي تتشوف الى مستقبل أفضل هي الحاملة لأدوار تنسجم مع واقع اتصالي واعلامي في مجتمع مغاير لما كان سائداً ومؤثراً في النظام السياسي لصياغة واتخاذ قرارات وقوانين عملية يشارك فيها المجتمع كي تمنحه الشرعية في الحكم.
تعليقات
إرسال تعليق