ساطع راجي
كان رجلا جميلا أنيقا وهو يشرب نصف ماء القدح ومعظم قهوة الفنجان ليتأمّل طويلا طمي البن في القاع.
يقول إنه يشعر بالأسف لتأخره في اكتشاف ملذات القهوة، وأنه خجل جدا، يقول لولا الخجل لمد إصبعه الى طمي القهوة واستعاد ذكرى طمي النهر الذي لم يشبع منه.
يقول إنه يشبه القهوة، ويدمن الغليان، حتى انه ساح من تحت الباب وسال في الشارع يوم طلبت منه زوجته البقاء في البيت ذات صباح.
يقول الناس إنه حاول الانتحار ذلك الصباح وقطع شريانه، ويقول هو انه شعر بالخجل يومها بعدما تلوث قميصه بطمي القهوة، يقول انه حزين منذ ذلك اليوم لحزن زوجته على شرشف المائدة الملوث بالقهوة.
يقول إن الرجل يجب ألا يخجل من آثار القهوة، وهو غاضب بسبب خجله، يقول إن المرأة يجب ألا تغضب من آثار القهوة، وهو خجل من غضبها.
في ذلك الصباح، أراد كبح غليانه إلا أنه مثل القهوة تمرد ساخنا وتدفق، شائطا واسود، وحزينا جدا كان، حزن لايمكن نسيانه.
لماذا لا نموت حين نحزن الى هذا الحد؟!، يقول، ويشير بيده النافرة منها عروقه الغليظة، بيده التي ترتجف حين يحزن وحين يغضب وحين يشعر باليأس ايضا.
يقول إن هذا العالم لا يطاق حتى لو كانت فيه قهوة لذيذة المرارة، وان لا مكان لرجل مولع بطمي النهر البعيد الذي لم يلعب فيه كفاية.
كنا نستمع مضطرين للرجل الجميل، نراقب أصابعه وهي ترسم في الفراغ ما يظنه تفاصيل حياته الطويلة، كان أنيقا دائما ويسحب كم قميصه من وقت لآخر لنرى جرح معصمه، يتظاهر بعدم تعمد ذلك، وانه يتكلم مع نفسه غير قاصد إسماعنا أحزانه وولعه.
ظل يكرر، انه ضائع منذ زمن بعيد، لا يعرف لماذا يعيش، ولا سبب لكلامه الكثير، يقول انه يسبب الاذى للعالم بهذا الكلام الممل، يقول انه يعرف بوجوده الفائض عن الحاجة، لكنه وجود جميل، ويضحك، مثل رغوة قهوة فائرة، ما نفعها؟، يسأل ويضحك، يمسد أطراف فمه ويحكي:
عندما كنت جنديا لم نعرف القهوة إلا في المآتم، كانت بلا طمي، ولا وقت لتأمل سوادها، كنا نشربها بسرعة ونموت او يموت غيرنا، لا فرق، كلما مات أحدهم تفتت فنجان في يدي، لا فرق، اموت انا منذ ذلك الوقت، ربما انا اتعفن منذ ذلك الوقت.
يقول: كثيرون ماتوا، اكثر حتى من كل فناجين القهوة التي اشربها منذ ثلاثين عاما، لو راكمت طمي القهوة لصار عندي مقبرة.
يقول، صرت مزعجا وثرثارا، سأموت هذا العام او الذي بعده، من يدري؟! اذا كنا لا نضبط وقت فوران القهوة وتدفقها كيف سنعرف شيئا آخر؟!، لكن ما أعرفه أنني سأموت منسكبا، سوف أسيح مثل سائل ثقيل ولن يشعر بي أحد، سوف انسكب لأن ايامي تكون قد ملأت فنجان عمري وفاضت، حينها يتلف كل شيء، لن أبقى في البيت ذلك الصباح، لن أشاهد الطمي مجددا، الطمي الذي عشقته حتى سد دروب حياتي وحبسني في القاع.
تعليقات
إرسال تعليق