في هذه الزيارة قُتِلَتْ الرغبة في زيارة الحي الصيني مرّة أخرى، لكني ظللت أحلم بزيارة الصين، حتى تعرفت إلى شوي قوه، في آخر أسبوع له في صف اللغة الإنكليزية، ثم استمررنا نلتقي بعد تركه للمدرسة. شوي أصغر مني، لكنه أطول بنحو عشر سانتمر، شاحب، بعينين لوزيتين ضيقيتين، يخيل لي أنني أراهما مسدودتين، فينقبض قلبي ألماً، لظني أنه يعاني من وضوح الرؤيا، ولحسن الحظ كنت واهماً.
قال لي لا تقف عند الياء عندما تلفظ اسمي، الفظ شْوو ثم ابلع الياء ولا تستبق سوى عشرها، وكذلك افعل مع الهاء في قوه. فكأني أركض والهث، ثم أقف. المهم أخذت ألفظ مثله، وكأني أدق خشبة ثم أتوقف مرتين.
ولما كنت أبحث عن عمل فقد ساعدني شوي بالتعرف إلى رئيس عمله، وهو شخص في ستيناته، أشقر خالط شعره البياض، ذو عينين صافيتين زرقاوين، كان يكره العرب كراهية شديدة، لكن وساطة شوي، جعلته يغض النظر عن أصلي، لم يكن العمل صعباً، بل غبياً، خليقاً بالكسالى وتنابل السلطان. العمل هو وضع قنينة العطر الرخيص، في غلافها المخصص لها. القناني تختلف شكلاً، اختلافاً بينناً، وكل حزام متحرك عليه نوع من القناني، علينا أن نلتقط الزجاجة من الحزام المتحرك، ونضعها في غلافها، ثم نرصها في صندوق مخصص لها، عليه صورتها. أصعب ما في العمل هو الاستيقاظ فجراً والوصول إلى مخزن العطور في الخامسة صباحاً، شوي قوه يعمل أربع ساعات إضافية، أما أنا فلا أستطيع العمل غير ساعتين فقط، إذ كنت أهرع إلى مدرسة تعليم اللغة، لأقضي نحو ثلاث ساعات، ثم أذهب إلى مقهى بغداد لأتناول عشائي، وأسمع وأرى نشاط العراقيّين المتجمعين، ثم أذهب إلى البيت لأنام. وعندما لحظ شوي، تعبي في الوصول إلى العمل الذي يأخذ نحو ثلاثة أرباع الساعة، ذهاباً ومثلها إياباً، اقترح لي أن اسكن معه في الحي الصيني مجاناً، لمدة نحو أربعة أشهر ونصف. ضحكت، تساءلت: لماذا هذه المدة المحددة، أربع أشهر ونصف؟
شرح لي الأمر: قريبتي تعمل في الخطوط الجوية الصينية، تقضي ثلاثة أيام في الأسبوع في شيكاغو، وهي في دورة لهذه المدة، البارحة سافرت إلى بكين، ما رأيك تقضي هذه المدة في شقتها، إن جددت هي العقد، ترجع إلى مكانك، وإن لم تجدد قريبتي عقدها، تبقى أنت في الشقة إلى ما تشاء. ذهبت معه لرؤية الشقة. كانت صغيرة جداً، وهي ملاصقة للباب الخارجي، فما إن تدخل تراها إلى اليمين، لكنها صغيرة جداً، لا تتسع إلا لسرير نفر واحد، وفراغ فيه كرسي، ومنضدة مربعة طول ضلعها نحو سبعين سنمتراً، فوقها خزانة معلقة على الحائط. وأمام السرير إلى اليمين، شباك يطل على الشارع، ذو ستائر خضر زاهية مسدلة. قبل أن أتفوّه بأيّ كلمة قال: نعم صغيرة، لكنك تستطيع وضع الحقائب والزيادات تحت السرير، أو في الجانب الثاني قرب المطبخ. لا تحتج. تكفيك إن نظّمت أمورك. أما أهم شيء فهو أنك لا تدفع أكثر من 200 دولار شهرياً، ليس الآن، لكن بعد أربعة شهور ونصف، أرخص غرفة في شيكاغو بـ ـ300$.
سألته: "كم دقيقة تستغرق للوصول إلى المعمل؟"
"ربع ساعة في الأكثر".
"مستحيل".
ضحك ضحكة قصيرة: "لماذا مستحيل، نسيت أنني أمتلك سيارة؟"
"ليس النسيان هو السبب، لكني لم أكن أعرف".
سيارة شوي صغيرة حمراء ببابين فقط، قديمة لكنها بحالة جدية، لم يستغرق الوقت إلى وصول الشقة أكثر من عشر دقائق، كانت تبعد عن السوق الصيني بشارعين اثنين فقط، وعندما فتح شوي الباب وجدت نفسي في الممر، كما وصفه لي، وكان من محاسن الشقة رغم صغرها، كونها مؤثثة بشكل كامل، ولا أحتاج لكي أنتقل إلا جلب حقيبتي الشخصية. وخيل لي أنني سأعتاد صغر المكان. لكني طلبت منه أن يريني المطبخ. كان هناك جدار خارج الغرفة إلى اليمين، يمتد بممر عرضه متر واحد من غرفة النوم حتى أربعة أمتار أخرى، الجدار بإرتفاع متر ونصف، يطل على فراغ عمقه، نحو أربعة أمتار لسرداب تحتنا، بدا وكأن هناك عائلة أخرى تسكنه، ولما كان باب الشقة يطل على الشارع مباشرة، فقد توقّعت أن باب السرداب، يفتح من الشارع الثاني الموازي لشارع الشقة.
"سأجيء لأوقظك صباحاً، وسنفطر معاً هنا، لنذهب إلى العمل معاً، والآن تعال".
تبعته، وإذ وصلنا إلى القسم الثاني من الشقة الصغيرة، رأيت باباً يؤدي إلى فضاء طويل بعرض متر ونصف، يمتد نحو أربعة أمتار، فيه، طباخ صغير، ومنضدة فوقها رفوف لأدوات مطبخية، وبضعة قدور في أحجام صغيرة، ووعاء لصنع القهوة، وبراد صغير للشاي، مع كؤوس عدة وملاعق. ثم توقف قرب باب وهو يفتحه: أنظر. قال ذلك بلهجة من يريد أن يفاجئني مفاجأة حلوة يفخر بها. اقتربت من الباب. حدّقت بالداخل. رأيت حماماً مستطيلاً، يمتد على طول الفضاء الخارجي، فيه مغطس فاخر يندفع فيه الماء من جميع الجهات، لإحداث تدليك للجسم، "مساج"، تخرج المياه بقوة من ثقوب متعددة بضغط قوي، في وقت واحد. قال لي: هذا أفضل هدية لمن يسكن في الشقة. ترتاح أعصابه خلال عشر دقائق، وفي القسم الثاني من الحمام "ساونا"، مغلّف بخشب ساج قهوائ، فيه مقعد مريح، لمن يهوى التعرق. نصبُ مثل هذا الحمام يكلف أكثر من ثلاثة آلاف دولاراً، لكنه يوفر مرفقاً باذخاً لحياة منعّمة لمن يعيش في جوٍ شديد البرد كشيكاغو.
ابتسم متفاخراً: "ما رأيك؟".
الأمر الوحيد الذي لم يعجبني هو سقوط أوراق الأشجار على الممر الفاصل بين قسمي الشقة، إذ تتكدس مع الغبار على طول الممر. قال لي: لا تهتم مطلقاً، صاحبة البيت، تأتي مرة في الأسبوع، تنظف كل شيء، وتغسل ملابسك إن شئت.
فرحت من كل قلبي، وتمنيت ألّا تأتي مضيفة الطيران الصينية بعد أربعة شهور أو حتى أربع سنوات. ولعل شوي أدرك لهفتي للسكن، فاقترح أن يأتي بحاجياتي: "مادمت أمتلك سيارة، دعني أجلب أشياءك". لم يأخذ ذلك وقتاً طويلاً، إذ لم يكن عندي سوى حقيقبة واحدة، وعلاقة من النايلون، دحستهما تحت السرير. قال شوي: زر توصيل الكهرباء إلى حمام البخار "الساونا، بين باب غرفتك والباب الرئيس. لا تنسَ.
كنت متعباً، أريد أن أنام حالاً، لكني قلت مع نفسي لماذا لا أجرب الحمام الفاخر، والسونيا كالاثرياء قبل أن آوي إلى سريري؟ ولهذا نزعت ملابسي، ولم أستبق سوى منشفة كبيرة، لففت فيها جسدي، وتكاسلت عن إخراج نعالي من العلاقة، فاستعملت حذائي، وقطعت الممر بين الغرفتين بسرعة كبيرة، وبحركة لا إرادية، لم استطع تفسيرها، أغلقت الباب بين الممر والجزء الخلفي بقوّة، فأحسست وأنا أسدّه بثقله غير الطبيعي، وكأنه من حديد، إذ بقي الرنين يسبح في جو الشقة الصغيرة بضع ثوانٍ.
ما أمتع الماء الساخن يخرج من فتحات عدة، وكأنه أيد سحرية تدلك رجلي، قدمي، فخدي، ظهري، أكتافي، تدفع الدماء إلى كل سنتمتر في جسدي. مضت خمس دقائق رأيتها كافية، لكني طمعت بأكثر، فأضفت مثلها، وحين أوقفتُ التيارات، أحسست بالرغبة بالمزيد، فاتكأت والمياه تدغدغني في جسدي كله، حتى غلبني النعاس، وكدت أغفو، لولا أنني أحسست بالمياه تبرد، عللت ذلك بصغر الخزان. نهضت، لففت المنشفة على جسدي كله. تركت الغرفة، التفت إلى اليسار، لأذهب إلى سريري، فرأيت الباب الحديد المؤدي إلى الممر مغلقاً بإحكام، حاولت فتحه فلم استطع، بدا وكأن المفتاح قد بقي في الجزء الأمامي، ولم يكن هناك "سقاطة" في هذا الجزء، أو عتلة تستعمل للفتح. حاولت ثانية، ثالثة، لكني لم أفلح. آنذاك أخذت أفكر، ماذا لو لم استطع أن أفتح الباب؟ ماذا سيحدث؟ فكرت طويلاً، هل سأقضي الليلة كلها وما بعدها محصور في هذا الجزء من الشقة الخالية من أي وسيلة للراحة؟ كيف وأين أرقد؟ أنا عارٍ إلا من منشفة، ماذا سأفعل وليل شيكاغو بارد قارص، ونحن في الأيام الأخيرة من تشرين الأول "نوفمبر"؟ من سيفتح الباب لي لينقذني من البرد؟ هنا في هذا القسم لا يوجد هاتف، الهاتف قرب السرير. ما العمل؟ تذكرت قصة قرأتها عن عامل في مصنع للحوم، ينغلق عليه باب المخزن، وفي الصباح يجدونه ميتاً، قد تجمد من البرد. وآخر مهندس في معمل نوويّ لم يخرج عندما سمع رنين الخروج، الذي يدق ثلاث مرات بين مرة وأخرى دقيقة كاملة، كان مشغولاً بضبط أمان المفاعل، وفي الصباح وجد وقد فقد عقله. ترى ماذا سيحدث لي؟ هل سأموت أم أفقد عقلي؟عشرات الأفكار الخالية من أيّ أمل مرّت في بالي. يا لبؤسي! كيف وقعت في هذه المصيبة؟ لماذا أفتقد التفكير المناسب دائماً؟ مشكلة بعد مشكلة! آه ما أتعسني، في الوقت الذي حسدت نفسي على العثور على شقة مناسبة، رخيصة، رائعة تلطمني هذه الحادثة! تفقدني عقلي! لم أدرك متى ينتهي الدسم وأتي السمّ! يا ويلي، مرة أخرى وأخرى وأخرى: ماذا أفعل؟
بدأ الليل يبرد، لم تعد المنشفة تدفئني، تذكرت أن النعاس تغلل إلى عيني عندما كنت أتمتع بحوض التدليك، لماذا لا أحاول النوم هناك؟ حسناً، كم سأبقى نائماً، ومتى سأستيقظ؟ ثم أدركت أن هذه ليست مشكلة، لأستيقظ في أي وقت، ألمهم أن أنام، أريح جسدي، بعد تعب اليوم الشاق! لكن لماذا أنسى، لا أستطيع الآن لقد برد الماء، يحتاج الخزان لكي يسخن ساعة كاملة في الأقل. سأنتظر ساعة أخرى وأعود إلى حوض التدليك.
ذهبت إلى رفوف المطبخ، فلعلي أجد عتلة أو مخل يساعدني على فتح الباب، فتشت عبثاً. ما العمل؟ وجدت سكيناً كبيراً، حاولت به. كاد يجرح كفي. لم استفد منه.
أخذ جسدي يبرد، حين أحسّ بالبرد تخلو أصابعي من الدم. أشعر بتنمل وألم. فكّرت، ثم حسبت كم سأبقى أعاني من البرد، الآن التاسعة، وسيأتي شوي في الرابعة والنصف، أي بعد سبع ساعات ونصف، أبقى في البرد، إنها كافية لتجميدي. علي أن أفعل شيئاً. ماذا أفعل؟ وقعت عيناي على الطباخ. هذا جيد. عليّ أن اشرب شيئاً ساخناً، عدت للتفيش في المطبخ، رأيت أكياس شاي آخضر. نعم، وجدتها، لكن البراد صغير، لا يكفي كوبين. مع ذلك لأسخن الماء، مرة وأخرى. نعم. هذا هو الحل، سخنت الماء وضعت فيه كيس شاي، مع سكر، شربت كأسين، أحسست بالدفء، لكن الدفء لم يستمر سوى عشر دقائق. ثم لم استطع أن أشرب أكثر، تذكرت هناك شيء آخر، علي أن أقوم بتمارين رياضية، خمس دقائق، وأركض في هذا الممر ذهاباً وجيئة خمس دقائق أخرى، وأعود إلى التمارين، وهكذا، نعم. هذا هو الحل. سأتمرن نحو ساعة، يكون الماء قد سخن خلالها، بعد الساعة أقضي وقتاً في حوض التدليك، حتى يبرد الماء، ثم أعود إلى التمارين الرياضية والركض، وهكذا. نعم. هذه خطة ممتازة. بدأت بالركض، أخذت أسمع دقات حذائي غير المنتظمة على الأرض لأني انتعل حذاء عادياً، لو كان حذاء رياضة لما سمعت صوتاً. مادام الصوت ظاهراً، لم لا أركض بنغم معين، دوم، دوم، دوم توقف ثم دوم، دوم، دوم توقف، وهكذا. تناسيت المشكلة. ركضت، توقفت، ثم ركضت، توقفت. أعجبني صوت أرتطام حذائي بالأرض، أردت أن أسمع الصوت أقوى. أخذت أدق كعبي حين يصل الأرض وأنا أركض، أو وأنا اقفز أعلى أسفل، قضيت نحو نصف ساعة، شعرت بالحرارة تسري في جسدي، نعم، نجحت، قاومت البرد. لكني تعبت، تعبت جداً، عليّ أن أكمل نصف ساعة أخرى، كي يسخن الماء، ثم أذهب إلى حمام المساج. آنذاك ستكون المياه قد سخنت. نعم. ركضت، لعبت تمارين سويدية، نعم. هذا الجزء الأول من الخطة، نجح في مقاومة البرد، نعم نجحت. ترى هل سأنجح في الجزء الثاني؟ من دون شعور، أخذت أدق الأرض بقوة، قلت مع نفسي. لن أذهب إلى الحمام قبل أن أنهي مئة دقة في الأقل.
هذا جيد. واحد. رفعت ركبتي إلى صدري، ثم دققت الأرض. نعم. هكذا الدق وإلا فلا. إثنان.. وصلت عشرة. آنذاك سمعت صوت خطوات في الممر، من؟ أهذا معقول؟ صوت طقطقة على الباب، لا أصدق. جاء الفرج، هناك محاولات لفتح الباب الحديد، من؟ لا بد أنه شوي. كنت وضعت المنشفة على الرف. ركضت. جلبتها، لففت نفسي. انفتح الباب. حدثت المعجزة. شوي، وبضعة رجال أطلوا، شوي يسأل بعصبية وبصوت عالٍ: ماذا تفعل وأنت عارٍ؟
ثم توقّف عن الصراخ، أدرك الموقف، لم يكمل. ضرب جبهته بلوم: آه. ذنبي لم أنبهك.
تكلم مع الرجال بالصينية. رجعوا وهم يضحكون، آنذاك أدركت أنني كنت أرفس وأدق سقف السرداب، ولا بد أنه كان غرفة، والدق أزعج من كان يجلس فيها، فذهبوا إلى شوي.
لم أهتم لهم، تركتهم وأنا أرتجف، وأسناني تصطك، كاد البرد يقتلني، لم أفه بأي حرف. ركضت إلى غرفتي، والفرحة لا تسعني. أخذت أرتدي ملابسي.
تعليقات
إرسال تعليق